في فجر 21 أغسطس/آب قبل 12 عاما، استيقظ السوريون من أهالي عدد من بلدات الغوطة الشرقية بريف دمشق على مشهد لمئات الجثث في الشوارع والمنازل لأشخاص قتلوا بغاز السارين السام، في واحدة من أسوأ المجازر التي ارتكبتها قوات نظام الأسد بحق المدنيين على مدار سنوات الحرب.

عند السادسة صباحا، بدأ المصابون الذين صارعوا الاختناق بالتوافد إلى المستشفيات في زملكا وعين ترما وعربين والمعضمية، منهم من تمكنت الفرق الطبية من إنقاذهم ومنهم من لفظوا أنفاسهم الأخيرة تحت نظر الأطباء، ليختتم المشهد بصور وثقت مئات الجثث المكفنة، ووجوه محتقنة جراء الاختناق بغاز الأعصاب الذي استهدفهم بقصف استمر طوال الليل.

منذ عام 2013 الذي وقعت فيه المجزرة، دأب النشطاء وذوو الضحايا والمعارضون السوريون على إحياء ذكرى المجزرة بغصة، لكن الذكرى تمر عليهم هذا العام بنكهة خاصة، فهي المرة الأولى بعد سقوط النظام المتهم بارتكابها، وانطلاق مسار للعدالة الانتقالية تقول السلطات الجديدة إنه يهدف لمحاسبة وملاحقة كبار المجرمين في نظام الأسد المتورطين في دماء السوريين.

عند الساعة الثانية بعد منتصف ليلة 21 أغسطس/آب 2025، شرعت مآذن المساجد في دمشق وريفها بإطلاق التكبيرات، كما قام بعض الأهالي بإطلاق المفرقعات النارية، في أولى مراسم إحياء الذكرى الثانية عشرة للمجزرة. ولاحقا، شهد نصب الجندي المجهول بدمشق وقفة لنشطاء وأبناء الغوطتين الشرقية والغربية وفاءً لضحايا مجزرة الكيميائي.

ماذا حدث خلال المجزرة؟

في عام 2013، كانت أجزاء واسعة من ريف دمشق، وتحديدا الغوطة الشرقية والغربية تحت سيطرة المعارضة وفصائل الجيش الحر، وكانت بلدات زملكا وعين ترما وجوبر والمعضمية تتلقى وابلا من القصف اليومي سواء بالمدفعية أو الطيران الحربي، إضافة إلى الاشتباكات المستمرة والتي كانت تهدد حكم الأسد وقبضته الأمنية في العاصمة دمشق.

لكن الغوطتين كانتا، ليلة 21 أغسطس/آب من ذلك العام، على موعد مع سلاح فتاك ومختلف عما سبق كما ونوعا، حيث استهدف اللواء 155 المتمركز في جبال القلمون شمال دمشق البلدات بمئات الصواريخ المحملة برؤوس ملئت بغاز السارين، والذي يعرف أيضا بغاز الأعصاب.

جرى ذلك بالتزامن مع وجود بعثة أممية في العاصمة السورية للتحقيق في هجمات سابقة اتهم النظام باستخدام السلاح الكيميائي خلالها على نطاق محدود.

الائتلاف الوطني السوري، الذي كان يقود المعارضة السياسة آنذاك، قال في تقريره عن المجزرة إن قوات النظام أطلقت ابتداء من الساعة 02:31 من فجر 21 أغسطس/آب مئات الصواريخ من نوع أرض أرض محملة بغازات سامة على الغوطة الشرقية والمعضمية واستمر إطلاق الصواريخ حتى الساعة 5:21 فجرا، وبدأت الحالات تصل المشفى عند الساعة 6:00 صباحا.

وقال الأمين العام للائتلاف السوري آنذاك بدر جاموس، في مؤتمر صحفي عقب يومين من المجزرة، إنه قبل ساعات من القصف، وبالتحديد قبل منتصف الليل بـ5 دقائق، وبعد 5 غارات جوية متتالية على هذه الأحياء، توقف القصف فجأة من قبل الطيران الحربي، واستمر الطيران المروحي بالتحليق، حتى تم القصف بالسلاح الكيميائي”.

وقال جاموس إن العملية تمت بإشراف من العميد في جيش النظام السوري غسان عباس. وتفاوتت التقديرات حول عدد ضحايا الهجوم، إلا أن فضل عبد الغني، رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان رجح أن يكون عدد القتلى قد بلغ 1127 قتيلا، 201 منهم من السيدات، و107 من الأطفال.

صورة من مجزرة الكيماوي من مدينة عربين بالغوطة الشرقية - آب 2013

مراوغات النظام لصد الاتهامات الدولية

طلب المفتشون من بعثة الأمم المتحدة -الذين كانوا متواجدين في سوريا بالفعل للتحقيق في دعاوى هجوم كيميائي سابق- السماح لهم بالوصول إلى مواقع في الغوطة بعد يوم من الهجوم، ماطل النظام في الرد على طلبهم، وسمح لهم في 26 أغسطس/آب بزيارة معضمية الشام وحققوا فيها، ثم حققوا في زملكا وعين ترما في 28 و29 أكتوبر/تشرين الأول أي بعد أكثر من شهرين من المجزرة.

أكد فريق التحقيق الأممي وجود “أدلة واضحة ومقنعة” على استخدام غاز السارين، وكشف تقرير صادر عن مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة في 2014 أنّه “استُخدمت كميات كبيرة من غاز السارين في هجوم خُطّط له جيدًا لاستهداف مناطق مأهولة بالمدنيين، مما تسبب في خسائر بشرية كبيرة.

في ذلك الحين، أوردت تقارير إعلامية نقلا عن أجهزة مخابرات عدد من الدول الغربية اعتقادها بتحمل النظام السوري المسؤولية عن الهجوم بغاز السارين السام على المدنيين في منطقة الغوطة، ورجحت بعض التقارير الاستخباراتية استعمال جيش النظام للسلاح الكيميائي بدون علم بشار الأسد أو تفويضه.

نفت حكومة النظام السوري ليس فقط مسؤوليتها عن الهجوم، بل أي استخدام للسلاح الكيميائي في المعارك، واصفة الصور والفيديوهات التي وثقت الضحايا والمصابين بالمسرحية، لكنها تبنت لاحقا رواية مناقضة تحمل المسؤولية عن الهجوم والضحايا للمعارضة نفسها.

لكن رئيس بعثة الأمم المتحدة آكي سيلستروم وصف تفسيرات النظام السوري حول حصول الثوار على أسلحة كيميائية بغير المقنعة.

أما تقرير بعثة الأمم المتحدة -الذي صدر في 16 سبتمبر/أيلول 2013- فلم يحمل مسؤولية الهجوم لأي جهة أو طرف، واكتفى بوصفه بأنه جريمة خطيرة ويجب “تقديم المسؤولين عنها للعدالة في أقرب وقت ممكن”.

تبعات دولية وتهديدات دولية

في بداية تحول قمع النظام للمظاهرات السلمية إلى معارك استخدم فيها الأسلحة الثقيلة بما في ذلك الدبابات والطائرات الحربية، حذر الرئيس الأميركي حينذاك باراك أوباما من أن استخدام النظام أو أي طرف آخر للسلاح الكيميائي سيمثل تجاوزا لخط أحمر.

وبعد تعاضد التقارير والتحقيقات بشأن مسؤولية النظام عن هجوم الغوطة، أعلن أوباما عن دراسة إدارته توجيه ضربات عسكرية ضد أهداف في سوريا ردًا على تجاوز خطه الأحمر وقدم طلب تفويض لمجلس الشيوخ في هذا الصدد، وأقدم رئيس الوزراء البريطاني حينئذ ديفيد كاميرون على خطوات مماثلة، في حين أيد الرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا هولاند ذلك دون تحفظ.

من جهتها، أعلنت جامعة الدول العربية دعمها لأي تحرّك عسكري ضد سوريا إذا حظي بمساندة أممية، غير أنّ الجزائر ومصر والعراق ولبنان وتونس عارضت هذه الخطوة.

في أواخر أغسطس/آب، صوّت مجلس العموم البريطاني ضد التدخل العسكري في سوريا. وفي مطلع سبتمبر/أيلول، قدم مجلس الشيوخ الأميركي تفويضه للرئيس باستخدام القوة العسكرية ضد النظام السوري.

صفقة دولية على أشلاء الضحايا

ومع بدء مجلس النواب بدراسة التفويض، كان أوباما ونظيره الروسي فلاديمير بوتين قد توصلا في 10 سبتمبر/أيلول 2013 إلى صفقة تقضي بأن تعلن سوريا عن أسلحتها الكيميائية وتسلّمها ليتمّ تدميرها تحت إشراف دولي، مقابل تخلي واشنطن عن ضربها.

وبالفعل، انضمت سوريا إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية ووقعت على اتفاقيتها، وصدر القرار الدولي 2118 الذي طالب بسحب وتفكيك الترسانة الكيميائية السورية، وهدد بمعاقبة النظام بموجب الفصل السابع في حال استخدام الأسلحة الكيميائية مجددا.

وفي وقت لاحق أعلنت إدارة أوباما عن تفكيك كامل الأسلحة الكيميائية التي صرح النظام بامتلاكها (1300 طن).

في سنوات الحرب التالية، عاد النظام لاستهداف مناطق سورية بالسلاح الكيميائي، مرتكبا مجزرتين في خان شيخون عام 2017 ثم في دوما عام 2018، وذلك وفق ما خلص إليه تحقيق مشترك للأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية.

ورغم قيام إدارة الرئيس دونالد ترامب في ولايته الأولى بتوجيه ضربات عسكرية رمزية شاركت فيها بريطانيا وفرنسا استهدفت مطار الشعيرات الذي يشتبه بانطلاق الهجوم على خان شيخون منها، فإنه لم يتم اتخاذ أي إجراء عقابي بحق النظام السوري من قبل الأمم المتحدة أو مجلس الأمن.

وفي يونيو/حزيران 2018، أعربت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية عن قلقها من عدم إعلان حكومة النظام السوري عن تدمير جميع أسلحتها الكيميائية ومنشآت إنتاجها وأنها لم تقم بذلك حتى ذلك الوقت.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version