جوبا- في الوقت الذي يسعى فيه جنوب السودان إلى ترسيخ مؤسساته، تبرز ظاهرة التوريث السياسي كأحد أبرز تحديات مسار التحول الديمقراطي.

من اللافت تزايد تعيين أبناء وبنات قادة حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان ورفاق الرئيس سلفاكير ميارديت، المنتمين إلى جيل المناضلين الذين خاضوا حرب التحرير في ثمانينيات القرن الماضي، وصولا إلى استقلال البلاد عام 2005، في مواقع قيادية رفيعة، وهو ما يُنظر إليه كترسيخ للولاءات العائلية داخل أجهزة الدولة.

وقد أثارت التعيينات الأخيرة التي أجراها الرئيس سلفاكير، منذ مطلع الشهر الماضي جدلا واسعا، إذ شملت أبناء وبنات قادة سابقين في الحزب أُعفُوا من مناصبهم، مثل كوال منيانق جووك ودانيال أويت أكوت، والأمين العام السابق للحزب والنائب السابق أيضا لرئيس الجمهورية جيمس واني إيقا.

فقد عُينت أتونق كوال منيانق وزيرة للتجارة، كما تولت ابنة أكوت منصب وكيلة وزارة الشباب والرياضة، وشملت التعيينات أيضا نجل الأمين العام للحزب جيمس واني إيقا، الذي أصبح مستشارا فنيا بوزارة الطرق.

وتُفسَّر هذه الخطوات على أنها شكل من أشكال التعويض السياسي لقادة سابقين، تأكيدا لمكانتهم في الحكومة واعترافا بتضحياتهم خلال مسيرة التحرير.

توريث المناصب

لم تقتصر تلك التعيينات على المناصب الوزارية العليا فحسب، بل امتدت لتشمل البرلمان القومي ومجلس الولايات وغيرها من المؤسسات والمناصب الرفيعة، حيث يُعين أبناء المسؤولين مكان آبائهم بعد وفاتهم. وتبرر الحكومة هذه الممارسة بغياب قانون واضح للمعاشات يكفل لأسر المتوفين وأقاربهم تعويضات أو مكافآت عن خدمتهم، ما يدفعها إلى اللجوء إلى ما يشبه توريث المنصب لأحد أفراد الأسرة.

ويرى مراقبون أن هذه الممارسات تعكس ضعف المؤسسات الحزبية والرسمية في البلاد، واعتماد النظام السياسي على الولاءات الشخصية وروابط الدم أكثر من اعتماده على الكفاءة والمعايير المؤسسية.

كما يحذر محللون من أن تكريس هذه الظاهرة قد يقود إلى تآكل الثقة العامة في الدولة، ويُغذي مشاعر التهميش لدى الشباب غير المنتمين إلى النخب الحاكمة. الأمر الذي قد يفاقم من حالة الانقسام السياسي والاجتماعي في جنوب السودان.

يقول الكاتب والمحلل السياسي أديسون جوزيف، لفهم تعيينات أبناء وبنات قدامى المحاربين وقيادات الحركة والجيش الشعبي، لا بد من النظر إليها في إطار ما يسمي بـ”منطق السوق السياسية”، -وفي رأيه-، يجري توظيف توزيع الثروة والامتيازات من السلطة كأداة لضمان الولاء السياسي لأسر القادة، بمنح أبنائهم مناصب حكومية وإدارية رفيعة.

ويضيف أديسون في تصريح للجزيرة نت، “يحاول الرئيس سلفاكير أن يُظهر نفسه بمظهر الراعي لأسر القادة الراحلين، فيوفر لهم سبل حياة كريمة، ويمنحهم نصيبًا من السلطة والثروة، وبهذا يسعى أيضا إلى كسب تأييد جزء من القاعدة الاجتماعية المرتبطة بهذه الأسر، لتكون سندا أساسيا له في أي معركة سياسية تخوضها الحكومة”.

ويرى جوزيف أنه ومن خلال ذلك، يضمن النظام إعادة إنتاج نفسه في أشكال جديدة، عبر دعاية ترفع شعار ضرورة إتاحة القيادة للشباب، غير أن المقصود هنا هو شباب السلطة الحاكمة نفسها، وليس عموم الأجيال الجديدة.

مرحلة مأزومة

وبحسب محللين، فإن إغلاق المجال السياسي على الأجيال الجديدة، يمثل أحد أخطر تداعيات ظاهرة توريث المناصب في جنوب السودان، إذ يُحرم الشباب من فرص المشاركة في صنع القرار والمنافسة على المواقع القيادية مما يخلق حالة من الانسداد السياسي التي من شأنها أن تقلل من احتمالات تداول السلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة.

وهو ما يهدد بإطالة أمد الأزمة السياسية القائمة ويزيد من احتمالات تعميق الانقسامات الاجتماعية في الدولة الوليدة.

ويشير الكاتب الصحفي سايمون أتير إلى أن ظاهرة التوريث السياسي في جنوب السودان قد تبدو للوهلة الأولى وسيلة لشراء صمت المناضلين، لكن التحليل العميق يوضح أنها تعكس سياسة “مرحلة مأزومة”.

ويضيف في تصريحات للجزيرة نت، “ترى القيادة أن احتواء الدائرة الداخلية وضمان ولائها أهم من توسيع المشاركة، ومع تآكل الثقة داخل المنظومة الحزبية، يصبح دفع أبنائهم إلى مواقع السلطة الوسيلة الوحيدة لضمان الولاء، فهناك شعور لدى القادة بأن السلطة لا بد أن تبقى ضمن دائرة محددة”.

ويمضي أتير “إن توريث المناصب يحول الوظائف من أمانة تُمنح بالكفاءة إلى إرث بالمحسوبية، ويضعف ثقة الشارع في الإصلاح المزعوم، ويكرس حكما أسريا هشا، ويقلص فرص التداول الديمقراطي للسلطة، ويُعمّق الإقصاء داخل الدولة الوليدة”.

البرلمان القومي بجنوب السودان الذي طالته يد التوريث في المقاعد - المصدر: صفحة البرلمان القومي

تهديد للديمقراطية

وبالنسبة للناشط في المجتمع المدني بجنوب السودان جيمس دانيال، فإن ظاهرة توريث المناصب في جنوب السودان تشكل تهديدا حقيقيا لوحدة الدولة، لأنها تحصر السلطة داخل دائرة محدودة من النخبة الحاكمة وتُبعد الأجيال الجديدة عن المشاركة السياسية، هذه الممارسة لا تعيق فقط تداول السلطة ديمقراطيا، إنما تجعل بناء أمة موحدة ومستقرة أكثر صعوبة”.

وأضاف دانيال في حديثه للجزيرة نت، أن التوريث السياسي في جنوب السودان سيؤدي إلى ظهور طبقة سياسية جديدة، قوامها المناضلون وأبناء المناضلين، ويُظهر المناضلين السابقين وكأنهم قاتلوا من أجل تحقيق مكاسب شخصية أكثر من النضال من أجل الشعب.

وأضاف أن هذا الانغلاق على النخبة الواحدة يهدد وحدة الدولة ويضعف فرص المشاركة الديمقراطية للأجيال الجديدة، كما أنه سيخلق إحباطا سياسيا وسط الشباب الأكفاء الذين يتوقعون أن يجدوا فرصهم في التمثيل السياسي عبر مؤسسات الحزب والدولة بناء على قدراتهم وليس الولاء أو الانتماء العائلي المباشر.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version