غزة- لم تتوقف مآسي الحرب على قطاع غزة عند حدود القصف والقتل والتدمير والتجويع، بل امتدت لتقتلع عائلات وأسرا فلسطينية بأكملها من دفء بيوتها، وتلقي بها في شتات لا يُعرف له موعد أو نهاية.

وهناك، على جانبي الحدود بين غزة ومصر، أمهاتٌ يقلبن الأيام عَدًّا بانتظار لقاء أزواجهن وأبنائهن دون أمل، وأطفال ينامون على أصوات آبائهم بعد أن غابوا خلف المعبر، وشباب سرقت الحرب أحلامهم ودمّرت الحدود مستقبلهم حين فقدوا حقهم في السفر لاستكمال دراستهم أو اللحاق بجامعاتهم بحثا عن تحقيق ذواتهم.

القصف الإسرائيلي متواصل.. مراسل الجزيرة يرصد آخر التطورات في غزة

حالات وأرقام

بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن نحو 115 ألف فلسطيني عبروا إلى مصر خلال الفترة بين نوفمبر/تشرين الثاني 2023 ويونيو/حزيران 2024، قبل اجتياح مدينة رفح وإغلاق المعبر في 7 مايو/أيار 2024 واستمرار القيود.

وهذه الفئة خليط من حالات “الهروب من الحرب والموت” ولمّ الشمل، ومرافقين المرضى، وغير ذلك. ومنهم نحو 7500 أجنبي من أصحاب الجوازات الأجنبية ومتعددي الجنسية، إضافة إلى حالات إجلاء قنصلي.

وتشير أرقام منظمة الصحة العالمية ومنظمة أوتشا إلى أن أكثر من 7600 مريض قد أُجلي طبيا من غزة بعد إغلاق المعبر، من خلال التنسيق مع الجانب الإسرائيلي حتى 6 أغسطس/آب 2025، منهم نحو 5216 طفلا. وهناك 414 مريضا خرجوا بين 19 يناير/كانون الثاني و17 مارس/آذار 2025، و459 بين 7 مايو/أيار 2024 و18 يناير/كانون الثاني 2025، و1702 مريض خلال الفترة من 18 مارس/آذار إلى 6 أغسطس/آب 2025.

وتُقدّر وزارة الصحة الفلسطينية في غزة أن أكثر من 14 ألفا و800 شخص ما زالوا بحاجة ملحّة للإجلاء الطبي والعلاج خارج القطاع.

موت وغربة وانتظار

أميرة درويش، التي فقدت عينها واثنين من أطفالها كنزة (10 سنوات) ويوسف (8 سنوات) في قصف منزلها بمخيم النصيرات، خرجت إلى مصر ومنها إلى الأردن للعلاج، تاركة زوجها وحيدا يعيش في خيمته قرب منزلهم المقصوف، يعاني ويلات الحرب والجوع، وعلى يديها رضيعها المصاب محمد (11 شهرا) وهي حامل في شهرها الرابع.

وتقول للجزيرة نت “اعتقدتُ أن الأمر لن يستغرق أسبوعين أو شهرا ثم نعود، مكثتُ 3 أشهر في علاج ابني، وعندما علم الأطباء بأنني حامل رفضوا عودتي بسبب خطر ركوب الطائرة على الجنين، ووضعت مولودتي في الأردن ولم يكن لديها رقم هوية، وهي لا تُمنح جواز سفر”.

ولم يكن أمام أميرة سوى ترك مولودتها في الأردن والعودة إلى مصر، حيث لم تستطع المؤسسات والمنظمات الدولية مساعدتها في حل مشكلتها، إلى أن تم إصدار جواز مؤقت يُستخدم لمرة واحدة فقط للعودة بطفلتها إلى مصر.

وهي اليوم تقاسي الحياة بفقدان أبنائها، وإصابتها، ومرض رضيعها، ومشكلة طفلتها المولودة في الغربة دون رقم وطني أو جواز سفر، إضافة إلى إغلاق المعبر وبُعدها عن زوجها وعائلتها، دون أمل في حل قريب أو انفراجة قادمة.

أمل تحوّل إلى ألم

في المقابل، لم تتخيل إيمان يوما أن تطول غربتها في مصر، وهي تنتظر بفارغ الصبر قدوم زوجها وابنها عمر للانضمام إليها، أو أن تصبح عودتها إلى غزة مجرد أمنية بعيدة.

قبل سنة و4 أشهر، وتحديدا في الـ23 من أبريل/نيسان 2024، غادرت إيمان غزة عبر معبر رفح إلى مصر رفقة أبنائها الأربعة طلبا للأمن والهدوء بعد أن أُدرجت أسماؤهم في كشوفات التنسيق.

لكن زوجها وابنها عمر لم يحالفهما الحظ في السفر، وبقيا في غزة نتيجة إغلاق المعبر بعد اجتياح مدينة رفح، ليظل قلب الأسرة معلّقًا بين ألم الغياب وأمل اللقاء.

أما ابنتها أمل، التي خرجت معها -إلى جانب أختها نور وأخويها على وعثمان- للالتحاق بجامعتها في مصر، فتؤكد للجزيرة نت أن “كل يوم يمر علينا في الغربة كأنه سنة، بين شوق لا يهدأ وانتظار يثقل القلب” وتضيف: فرحتنا لم تكتمل ومعاناتنا ازدادت بعد أن فرقت الحدود بيننا وبين أبي وأخي.

وتقول أيضا “خرجنا ونحن على أمل أن يلتحقوا بنا، لكن ذلك لم يتحقق، وبقوا تحت القصف والنار والموت والدمار، نعيش كل يوم بخوف وقلق عليهم، ولم نذق طعم الراحة أو الاستقرار”.

وتتساءل “كيف يمكن أن نعيش حياتنا بشكل طبيعي وجزء منّا بعيد عنا في ظروف قاهرة وبيئة خطيرة؟ كيف لأمي أن تمارس حياتها دون حيرة وقلق ورعب على زوجها وابنها اللذين افترقا عنها؟ إنها حياة صعبة ومأساة بكل معنى الكلمة”.

علاج لم يشفِ الوجع

وهذه حكاية أخرى لوفاء رجب، التي خرجت من غزة للعلاج بعد إصابتها البالغة في الحرب، تاركة خلفها زوجا وأبناء لم تنجح محاولات لمّ شملهم حتى الآن بعد إغلاق المعبر الذي امتد ما يقارب 16 شهرا وما زال. وتبدو أكثر خوفا وقلقا بعد أن فقدت الأمل في العودة إلى غزة أو الاجتماع بزوجها وأولادها.

وتروي للجزيرة نت قصتها بالقول “ما أمرّ به اليوم في الغربة، وأنا بعيدة عن بيتي وزوجي وأولادي، أصعب من ألم الإصابة، خرجت مرغمة بسبب جراحي البالغة، ولم أتخيل أن تفرقنا الحدود، وأن يتحول تفكيري من التعافي والشفاء إلى الخوف من منعي من العودة أو حرماني من لمّ شمل عائلتي”.

وبحسب أبو نهاد فإن زوجته وفاء تعاني ظروفا اقتصادية صعبة جدا بعد أن انتهت فترة علاجها وغادرت السكن المجاني في المستشفى، وأصبحت بحاجة إلى إيجار ومصروف، بينما يعاني هو أيضا أوضاعا اقتصادية خانقة في ظل الحرب والغلاء.

وأضاف “عندما خرجت زوجتي للعلاج ضمن كشوفات منظمة الصحة العالمية، اعتقدتُ أن الأمر لن يطول، لكنها اليوم مشتتة في الغربة دون مأوى أو رعاية، وأجتهد في إرسال بعض المال لها لتدبير أمورها”.

ويتساءل “أين ممثلو هذه الأسر؟ وأين جمعيات الرعاية والإغاثة والمنظمات الدولية من القيام بواجباتها تجاه من أنهكتهم الغربة وأوجعهم التشتت وأتعبهم الفقد؟”.

مناشدة إنسانية

أما الحاجة جميلة نوفل، فقد خرجت إلى مستشفى ديرب نجم في الزقازيق بمصر للعلاج من مرض السرطان مصطحبة ابنتها مريم، لكن القدر لم يمهلها، فتوفيت هناك، تاركةً مريم تواجه الغربة وحيدة بلا معين ولا معيل.

وتتحدث مريم للجزيرة نت “أصبحت وحيدة في الغربة بعد وفاة أمي، ليس لي أحد في مصر، تركتُ المستشفى الذي كنت أقيم فيه مع والدتي، وأصبحت مشتتة بلا سكن ولا مأوى ولا طعام، يرسل لي أخي من تركيا بعض المصروف، وأبحث دوما عن أهل الخير والجمعيات الخيرية لمساعدتي”.

وتناشد مريم مؤسسات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية لإيجاد حل لمشكلتها وإعادتها إلى وطنها “فأنا فتاة وحيدة ولا سند لي في الغربة”.

تختلف حكايات الفلسطينيين العابرين من غزة إلى مصر والدول الأخرى، لكن تبقى معاناتهم واحدة في غربة تحمل معها همّ البعد عن الأهل والوطن، ويبقى الحلم الأكبر هو العودة وجمع شتات العائلات تحت سقف واحد.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version