ومع تصاعد التوتر بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وقوة الردع الخاصة التي تُعد واحدة من أبرز الفصائل المسلحة في الغرب الليبي، تبدو البلاد مقبلة على مرحلة حرجة تهدد بإعادة سيناريوهات الفوضى التي عاشتها منذ سقوط نظام معمر القذافي.
طبول حرب تدق أبواب العاصمة
طرابلس اليوم ليست مجرد مدينة تعيش أجواء توتر أمني عابر، بل تحولت إلى ثكنة مفتوحة، حيث الأرتال العسكرية تتنقل بين شوارعها، وصوت السلاح يعلو على هموم الحياة اليومية للمواطنين.
التحركات المكثفة، والانتشار الملحوظ للكتائب، والدعوات إلى الاستنفار، كلها مؤشرات تنذر بأن العاصمة تقف فوق صفيح ساخن قد ينفجر في أي لحظة.
المتحدث السابق باسم المجلس الرئاسي، محمد السلاك، حذر خلال مداخلة مع غرفة الأخبار على سكاي نيوز عربية من أن البلاد وصلت إلى مستوى خطير من التصعيد، نتيجة خلل عميق في البنية الأمنية، وتداعيات تصفية جهاز “دعم الاستقرار” في مايو الماضي، الأمر الذي قلب موازين القوى والتحالفات داخل طرابلس.
صراع بين الحكومة والردع
التوتر القائم بين حكومة الوحدة وقوة الردع لا يعكس خلافا عابرا، بل هو انعكاس لصراع أوسع على السلطة والنفوذ. فبحسب السلاك، بدأت الحكومة تفقد أدواتها في السيطرة تدريجيًا، فيما يزداد نفوذ الأجهزة الأمنية والعسكرية الموازية.
ويبدو أن قرار حكومة الدبيبة بمحاولة السيطرة على قاعدة معيتيقة، التي تمثل معقلا رئيسيا لقوة الردع، كان بمثابة شرارة تهدد بإشعال مواجهة مفتوحة.
هذا السيناريو يثير قلق السكان في طرابلس ومحيطها، حيث تسود حالة من الغضب والاستياء في مناطق سوق الجمعة، التجرورة، الزاوية، وغيرها، خوفًا من أن ينجرّ الصراع نحو أحياءهم ويعيدهم إلى سنوات الدم والدمار.
اتفاق وقف إطلاق النار على المحك
أخطر ما في هذا المشهد أن أي اشتباكات واسعة في طرابلس قد تؤدي إلى تقويض اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في أكتوبر 2020، والذي أوقف حينها حربا مدمرة بين قوات الشرق والغرب.
انهيار هذا الاتفاق قد يعيد البلاد إلى نقطة الصفر، ويفتح الباب أمام فوضى مسلحة يصعب التحكم في مسارها أو احتواؤها.
ويؤكد السلاك أن “أي صراع في العاصمة الآن لا يعني فقط تقويض العملية السياسية، ولكن يعني أيضًا الانزلاق إلى فوضى قد تهدد وحدة ليبيا وسلامتها الإقليمية”، في تحذير صريح من تداعيات تتجاوز العاصمة إلى كامل الجغرافيا الليبية.
السلطة توظف السلاح.. والسلاح يوظف السلطة
المعادلة الليبية اليوم تقوم على تشابك معقد بين السياسي والعسكري، حيث لم يعد بالإمكان الفصل بين الطرفين. السلاك يلخص الأمر بقوله: “السلطة توظف السلاح، والسلاح يوظف السلطة”. فالقوى السياسية تستند إلى فصائل مسلحة لتعزيز مواقعها، فيما توظف هذه الأخيرة شرعية السياسة لضمان حضورها ونفوذها.
هذا التشابك يغذي الصراع بدل أن يطفئه، ويجعل من كل تسوية سياسية مجرد هدنة هشة قابلة للانهيار عند أول خلاف. ومع غياب مؤسسات قوية قادرة على فرض النظام والقانون، يبقى ميزان القوة مرهونًا بمن يملك السلاح على الأرض.
الوساطات.. جهود لا تكفي
رغم خطورة الوضع، لا تزال هناك محاولات لاحتواء الأزمة. المجلس الرئاسي يحاول الدفع بمسار تهدئة، مدعومًا ببيانات من البعثة الأممية تؤكد دعمها لهذا الاتجاه.
وقد طُرحت مبادرة لتشكيل لجنة هدنة والسعي لتفاهمات مشتركة بين حكومة الوحدة وقوة الردع. لكن، وعلى الرغم من هذه الجهود، يؤكد السلاك أن الواقع لا يبشر بنجاح وشيك، في ظل استمرار التحشيد العسكري وتخزين السلاح واستدعاء الكتائب. وهذا يعني أن احتمالات التصعيد تظل قائمة، وأن خطر الانزلاق نحو مواجهة مسلحة لا يزال قائمًا بقوة.
تراجع الاهتمام الدولي
على الصعيد الدولي، يشير السلاك إلى أن الملف الليبي لم يعد يحظى بالاهتمام الذي كان عليه في السابق. فقد تراجع الزخم الدولي لصالح أزمات أخرى أكثر إلحاحا على الأجندة العالمية، مثل الحرب في أوكرانيا، والتصعيد في غزة، والأزمات المستمرة في السودان.
غياب التوافق بين أعضاء مجلس الأمن، وتراجع دور الدول الكبرى كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا في الملف الليبي، خلق فراغًا استغلته الأطراف المحلية لتعزيز مواقعها والاستمرار في ممارساتها، دون ضغط جدي يدفعها نحو التسوية.
انتخابات مؤجلة وأفق مسدود
في ظل هذه المعطيات، تبدو الانتخابات التي يطالب بها الليبيون مجرد حلم بعيد المنال. فالأجسام السياسية الحالية، بحسب السلاك، “جاثمة على أنفاس الليبيين”، فيما تظل الوعود الدولية مجرد شعارات لا تجد طريقها إلى التنفيذ.
الليبيون يواجهون انسدادا سياسيا متكررا، حيث تطرح خطط متتالية من البعثة الأممية، لكنها سرعان ما تتبدد دون نتائج ملموسة. وهو ما جعل البلاد تدور في حلقة مفرغة، تستهلك الزمن والموارد، فيما يظل الاستقرار الدائم مؤجلًا إلى إشعار آخر.
انعكاسات محتملة على الغرب الليبي
أي انفجار عسكري في طرابلس لن يقتصر على حدود العاصمة، بل سيمتد أثره إلى المدن المحيطة في الغرب الليبي. الزاوية، مصراتة، وزوارة قد تجد نفسها جزءًا من مشهد الفوضى، بحكم الترابط الجغرافي والتشابك بين الفصائل المسلحة.
كما أن انهيار الوضع في العاصمة قد يشجع أطرافًا أخرى على توسيع نفوذها، ما يعمق الانقسامات ويزيد تعقيد المشهد.
هل من مخرج؟
في ظل هذا الانسداد، تبدو الحاجة ملحة إلى مبادرة جادة تعيد ترتيب المشهد السياسي والعسكري في ليبيا.
المطلوب، بحسب مراقبين، هو اتفاق شامل يضمن دمج التشكيلات المسلحة في مؤسسات الدولة، وتحديد مسار واضح للانتخابات، مع وجود ضمانات دولية وإقليمية تضمن تنفيذ أي تسوية.
لكن الواقع يشير إلى أن غياب الإرادة السياسية، واستمرار الحسابات الضيقة لمراكز القوى، إضافة إلى تراجع الدعم الدولي، كلها عوامل تجعل الطريق إلى هذا الحل أكثر وعورة وتعقيدا.
طرابلس تقف اليوم أمام مفترق طرق حاسم: إما الانخراط في مواجهة جديدة ستعيد ليبيا إلى مربع الدم والفوضى، أو الانصياع لجهود التهدئة والبحث عن حل سياسي ينقذ ما تبقى من البلاد.
وبين هذا وذاك، يبقى المواطن الليبي الخاسر الأكبر، رهينة صراع تتقاطع فيه السلطة بالسلاح، وتتصادم فيه المصالح المحلية مع غياب الرؤية الدولية.
وفي غياب توافق داخلي ورعاية دولية فعالة، يبدو أن الأزمة الليبية ستظل أسيرة حلقة مفرغة، تُهدد كل مرة بالانفجار، وتُبقي البلاد في حالة عدم استقرار دائم.