خاص

لم تعد “مدن الأشباح” في الصين مجرّد ظاهرة عمرانية غريبة، بل باتت عنوانًا صريحًا لانهيار قطاع يُعدّ من ركائز الاقتصاد الصيني، بل أحد رموز صعوده المذهل خلال العقود الأخيرة. قطاع الإسكان الذي كان ذات يوم أكبر مجمع للثروات في الصين، تحوّل إلى أكبر مدمّر لها في التاريخ الحديث، بعد أن كبّد الصينيين خسائر فادحة تجاوزت 18 تريليون دولار خلال أقل من أربع سنوات.

 ملايين الشقق الخالية… وغياب الطلب

في مشهد يعكس حجم الأزمة، يُقدّر عدد الوحدات السكنية الفارغة في الصين اليوم بـ80 مليون وحدة، أي ما يعادل 20 ضعف عدد الوحدات السكنية في مدينة نيويورك. هذه الشقق لا يسكنها أحد، والسبب يعود إلى التراجع الحاد في الطلب مقابل فائض ضخم في العرض، وسط تراجع معدلات المواليد، وانكماش عدد السكان لأول مرة منذ عقود.

وتُظهر الأرقام أن 42 بالمئة من الأسر الصينية في المدن تمتلك منزلين، بينما 20 بالمئة منها تمتلك ثلاثة منازل أو أكثر، باعتبار العقار الوسيلة الأفضل – تقليديًا – للاستثمار، وهو تفضيل شبيه بالثقافة العربية في تفضيل العقارات على الأسهم والسندات. لكن مع استمرار التراجع، فقدت أسعار المساكن نحو 30 بالمئة من قيمتها منذ عام 2021، ما يعني أن جزءًا ضخمًا من هذه الاستثمارات تحوّل إلى عبء ثقيل بلا عائد.

ديون متعثرة.. وشركات متهاوية

الحجم الهائل من الوحدات السكنية غير المأهولة ترافقه مديونية كارثية. يبلغ إجمالي الديون المتراكمة على القطاع العقاري في الصين قرابة 5 تريليونات دولار، فيما تخلفت نحو 50 شركة تطوير عقاري عن سداد التزاماتها. وعلى رأس هذه الشركات يأتي عملاق العقارات “إيفرغراند”، الذي كان بمثابة رمز للنمو العمراني الصيني، قبل أن يتحوّل إلى أكبر حالة إفلاس عقاري في التاريخ.

وبحسب تقرير حديث، فإن 160 مليار دولار من هذه الديون تعتبر اليوم “ديونًا متعثرة”، ما يعكس هشاشة الوضع المالي في هذا القطاع الذي شكّل لأعوام طويلة ركيزة من ركائز ازدهار الطبقة الوسطى الصينية.

تحذيرات من “نهاية المعجزة الصينية”؟

في حديثه إلى برنامج “بزنس مع لبنى” على قناة سكاي نيوز عربية، أكد طارق الرفاعي، الرئيس التنفيذي لمركز كوروم للدراسات الاستراتيجية، أن القطاع العقاري يشكّل العمود الفقري للاقتصاد الصيني، مباشرة أو من خلال القطاعات المرتبطة به.

وأوضح أن محاولات الحكومة الصينية لتحفيز القطاع العقاري منذ عام 2020 لم تنجح في وقف التدهور، في ظل استمرار الفجوة بين العرض والطلب، وتراجع ثقة المستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء.

ويضيف الرفاعي: “نحن اليوم في قلب فقاعة عقارية مستمرة منذ أربع أو خمس سنوات، والسؤال الحاسم هو: أين القاع؟ تقرير غولدمان ساكس يتوقع أن لا نصل إلى القاع قبل 2026 أو حتى 2027″، ما يعني أن الأزمة لم تبلغ ذروتها بعد، وأن تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية مرشحة للتفاقم.

تجربة اليابان تتكرر!!

يقارن كثير من الخبراء ما يحدث اليوم في الصين بما جرى في اليابان خلال الثمانينيات، حين شهدت البلاد فقاعة عقارية ضخمة أعقبها ركود طويل استمر لعقود. ويرى الرفاعي أن العقارات الصينية قد لا تعود إلى المستويات التي بلغتها في العقد الماضي، تمامًا كما لم تعد العقارات اليابانية إلى ذروتها حتى اليوم، رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على تلك الأزمة.

الفرق هنا، أن الاقتصاد الصيني يُعدّ ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وبالتالي فإن تأثير فقاعة العقارات في بكين لا يقتصر على الداخل فقط، بل يمتد إلى الأسواق العالمية، خاصة وأن الصين تُعدّ المحرك الصناعي للعالم.

تراجع الثقة الأجنبية والبحث عن ملاذات بديلة

مع تدهور الثقة في السوق العقاري الصيني، بدأ المستثمر الأجنبي يعيد تقييم أولوياته. بحسب طارق الرفاعي، “لم يعد المستثمر مقتنعًا بأن النموذج الاقتصادي الصيني قادر على الصمود، ما يدفعه للبحث عن ملاذات أكثر أمانًا كالولايات المتحدة التي تتمتع بسيولة أكبر وبنية استثمارية أكثر شفافية”.

ويضيف: “خلال العقود الماضية، كان يُنظر إلى الصين على أنها معجزة اقتصادية. لكن اليوم، تظهر تصدّعات في هذه الصورة، خاصة مع الأداء الضعيف للقطاع العقاري، وهو القطاع الذي غذّته السياسات الحكومية عبر ضخ كميات هائلة من الائتمان لتحقيق أهداف النمو”.

السياسات الحكومية… بين الوقود والانفجار

ويرى مراقبون أن السياسات التي تبنتها الحكومة الصينية منذ التسعينيات ساهمت في خلق الفقاعة العقارية. إذ كانت الحكومة تضع أهدافًا طموحة للنمو الاقتصادي، وتحثّ البنوك والمؤسسات على تمويل مشروعات البناء لتلبية هذه الأهداف. لكن هذه السياسة – التي غذّت النمو بشكل صناعي – أصبحت اليوم عبئًا، وسط تباطؤ الطلب الحقيقي، وقيود تنظيمية أكثر صرامة على الديون.

يقول الرفاعي: “السياسات النقدية والاقتصادية أعطت الوقود للفقاعة، لكنها لم تضع أدوات فعالة لاحتوائها عند التوسع المفرط. واليوم ندفع ثمن هذه المقاربة”.

هل الأزمة قابلة للامتداد دوليًا؟

رغم التشابه مع أزمة العقارات اليابانية، إلا أن المحللين يستبعدون تحول الأزمة العقارية الصينية إلى أزمة مالية عالمية شاملة، كما حدث في 2008. ويعلّق الرفاعي: “لا نرى حتى الآن أزمة مصرفية حقيقية داخل الصين بفضل تدخل الحكومة، لكن هذا لا يعني أن الخطر غير موجود. نعم قد نشهد اضطرابات بنكية إذا استمر الانكماش، لكن لا أعتقد أنها ستتحول إلى أزمة عالمية لأن انكشاف النظام المالي العالمي على الصين ليس بنفس مستوى انكشافه على الولايات المتحدة”.

خاتمة: مدن الأشباح ليست مجرد ظاهرة عمرانية

في المجمل، مدن الأشباح الصينية تمثل أكثر من مجرد مبانٍ خاوية؛ إنها صورة مادية لانفجار فقاعة اقتصادية ذات أبعاد عالمية. فبينما تحاول الحكومة الصينية امتصاص الصدمة وطمأنة الأسواق، يبدو أن الثقة في النموذج الاقتصادي الصيني باتت على المحك، خصوصًا من قبل المستثمرين الذين صاروا أكثر ميلًا للبحث عن الأمان بدل المغامرة.

الأسئلة المطروحة الآن ليست فقط متى ستتعافى السوق العقارية، بل أيضًا: هل بدأت الصين تفقد الزخم الذي جعلها معجزة اقتصادية؟ وهل نقترب من لحظة تحوّل جوهري في مركز الثقل الاقتصادي العالمي؟

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version