مقدمة الترجمة
حصلت الهند على استقلالها من بريطانيا عام 1947، بعد تسعين عاما من الحُكم البريطاني الذي حرم أجيالا متعاقبة من الهنود من تقرير مصير بلادهم والتمتُّع بثرواته.
بيد أن الحُكم البريطاني -للمفارقة- منح الهند درجة من الوحدة السياسية لم تعرفها من قبل، إذ إن القارة الهندية لم تنضوِ أبدا تحت لواء دولة واحدة في تاريخها، فقد هيمن على شمالها الناطقون باللغات الهندية، وأهمها الهندي والأوردو، وفي شرقها كان الناطقون بالبنغالية وثقافتهم الفريدة المختلفة عن الشمال موجودين، في حين يعيش في جنوبها منذ قرون الناطقون باللغات الدراويدية، وأشهرها التاميلية.
بعد أن أعلنت الهند نفسها جمهورية مستقلة، بدأت جهود دؤوبة من حزب المؤتمر الحاكم بزعامة غاندي وجواهر لال نهرو لصياغة نظام فدرالي يجمع تلك القارة مترامية الأطراف، ويجمع العشرات من اللغات والأعراق والهويات الإثنية والدينية، حتى ظهرت في الأخير جمهورية فدرالية في الهند تقوم على درجة من التوازن بين سلطة الحكومة الاتحادية في دلهي وسلطات الحكومات المحلية في الولايات البالغ عددها 28 ولاية، إلى جانب 8 أقاليم اتحادية تحكُمها دلهي مباشرة.
في السنوات الأخيرة، وبسبب صعود القومية الهندوسية بقيادة ناريندرا مودي، ورغبته في ترسيخ المركزية، وإعادة توزيع خريطة السلطة السياسية لصالح الشمال الهندي على حساب الجنوب، حيث يتمتع حزبه بالشعبية الأكبر شمالا وبدرجة أقل شرقا، في حين تحتفظ الولايات الجنوبية بأحزابها الإقليمية الفريدة.
في تلك الأثناء، يتزايد الحديث عن تصدُّع النظام الفدرالي في الهند، وما يُمكن أن يُفضي إليه من صراع غير مسبوق بين الحكومة الاتحادية بقيادة مودي والحركة القومية الهندوسية من جهة، ومن جهة أخرى الولايات الجنوبية ذات معدلات التنمية الأعلى وتعداد الـ280 مليون مواطن.
نص الترجمة
في أثناء حضوره حفل زفاف في مارس/آذار الماضي، طلب موتوفِل ستالين (M. K. Stalin)، رئيس وزراء ولاية تاميل نادو الهندية، الولاية الأسرع نموا في الهند، طلبا غريبا من مستمعيه: “في السابق كنا نقول خذوا وقتكم ثم أنجبوا طفلكم الأول، لكن الوضع تغيَّر الآن.. إنني أحُثُّ المتزوجين حديثا على إنجاب الأطفال فورا”.
في الدولة صاحبة التعداد السكاني الأكبر في العالم، قد يبدو مثل هذا التصريح عبثيا، إذ إن السياسة السائدة في معظم تاريخ الهند بعد استقلالها كانت السيطرة على النمو السكاني، لا تشجيعه. لكن تصريح ستالين لم يكن ذا صلة بالسياسات السكانية الهندية، بل كان مرتبطا بمعادلات القوة والسلطة داخل الهند.
ينص دستور الهند على إعادة توزيع المقاعد البرلمانية بعد إجراء كل تعداد سكاني، وهو تعداد يُجرَى عادة كل عشر سنوات. لكن هذه العملية، التي تُعرف باسم “ترسيم الدوائر”، لم تُجرَ منذ عام 1973، ما يعني أن توزيع المقاعد البرلمانية في الهند اليوم يستند إلى بيانات التعداد السكاني لعام 1971.
فقد عُدِّل الدستور عام 1976 من أجل تعليق هذه العملية، ومنذ ذلك الوقت مُنِع إجراء أي تعديل في عدد المقاعد البرلمانية حتى بعد التعداد السكاني لعام 2001. وفي عام 2002، مدَّد البرلمان هذا التعليق مرة أخرى إلى ما بعد عام 2026.
جاء التجميد عامَيْ 1976 و2002 نتيجة الخوف من الفروقات الديمغرافية بين الولايات الجنوبية الغنية والأقل سكانا، والولايات الشمالية الفقيرة والأكثر سكانا، واحتمالية تغيُّر توازن القوى في البلاد. وكانت النية المُعلَنة هي تجنُّب معاقبة الولايات التي أحرزت تقدما اقتصاديا ونجحت في خفض معدلات الخصوبة، بحرمانها من المقاعد البرلمانية، وساد الاعتقاد حينها أنه مع مرور الوقت، ستلحق بقية البلاد بركب التنمية في الجنوب.
لكن بدلا من رأب الصدع بين الجنوب والشمال، اتَّسَع فارق معدلات النمو الاقتصادي والنمو السكاني بينهما بشكل كبير. على سبيل المثال، كان عدد سكان ولاية أوتَّار برادِش الشمالية يزيد بقليل على ضِعف عدد سكان تاميل نادو عام 1971، أما اليوم فتشير التقديرات إلى أن عدد سكان الأولى يُعادل ثلاثة أضعاف الأخيرة.
لقد أصبح معدل الخصوبة في تاميل نادو اليوم أقل من معدل الإحلال المستهدف للحفاظ على عدد السكان في الولاية، وهو 2.1 طفل لكل امرأة، في حين أن المعدل في ولاية أوتَّار برادِش، رغم تراجعه، لا يزال أعلى بكثير.
يمكن لهذا التباعد أن تكون له تبعات خطيرة على التمثيل السياسي. فقد توقَّعت دراسة مشهورة نُشرت عام 2019 للباحثَيْن ميلان فايشناف وجَيمي هينتسون بأن الدوائر الانتخابية إذا رُسِّمَت بعد عام 2026 كما هو مُقرَّر، فإن ولايتَيْ بيهار وأوتَّار برادِش الشماليتيْن قد تحصلان معا على نحو 21 مقعدا برلمانيا، بينما يمكن لولايتَيْ تاميل نادو وكيرَلا في الجنوب أن تخسرا معا نحو 16 مقعدا. أما في حال عدم إجراء الترسيم، فإن مقاعد أوتَّار برادِش ستظل أقل بـ11 مقعدا مما يُفتَرَض أن تحصل عليه بناءً على عدد سكانها.
بعد أن تقرر تأجيل التعداد السكاني المقرر لعام 2021 دون تفسير واضح، أعلنت الحكومة في يونيو/حزيران 2025 عن نيتها إجراء تعداد جديد في مارس/آذار 2027، مما يتيح للهند إعادة توزيع مقاعد البرلمان قبل الانتخابات العامة المقبلة المقررة عام 2029. وثمَّة مخاطر عالية جرَّاء هذا التغيير بالنسبة للأحزاب السياسية في الهند.
فالحزب المُسيطر في معظم أنحاء البلاد، بهارَتيا جَنَتا، يتمتع بقاعدة دعم قوية في الشمال ذي الكثافة السكانية العالية، لكنه يواجه صعوبة في ترسيخ موطئ قدم له في الولايات الجنوبية، لا سيَّما في تاميل نادو، حيث تهيمن الأحزاب الإقليمية.
إذا خسرت هذه الولايات الجنوبية مقاعدها، فسيكون الفوز وتشكيل أغلبية برلمانية أمرا أسهل ومواتيا أكثر من ذي قبل للحزب الحاكم. ولذلك، عندما دعا موتوفِل ستالين، زعيم حزب “درافيدا مونيترا كَراغَم” الإقليمي، وهو الحزب البارز في تحالف المعارضة الوطنية المعروف باسم “إنديا” (INDIA)، سكان ولايته الناطقين بلغة التاميل إلى إنجاب المزيد من الأطفال، فإنه كان يرسم بذلك خطوط المعركة السياسية في البلاد.
تمتدُّ التوترات المحيطة بإعادة ترسيم الدوائر الانتخابية إلى ما هو أبعد من الانتخابات، إذ إنها تُعبِّر عن تآكل أوسع في بنية الفدرالية الهندية. فالفجوات الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة بين الولايات، إلى جانب المشروع الأيديولوجي لحزب بهارَتيا جنَتَا القومي الهندوسي، تفرض ضغوطا جديدة على العقد الفدرالي الذي تقوم عليه الديمقراطية الهندية.
ومن دون إيجاد حل مناسب لهذه التحديات، فإن سياسة فدرالية أكثر تصدُّعا ستتمكَّن من الهند، مما يعوق التقدم الاقتصادي، ويُقيِّد الحريات الديمقراطية التي انتُزِعَت بشق الأنفس.
أسس الفدرالية الهندية
تُعَد الهند قارة على هيئة دولة، وتحتضن عددا هائلا ومتنوِّعا من السكان، الذين يتحدثون لغات عديدة تعترف الحكومة رسميا بـ22 لغة منها، ويُمثِّلون ديانات وأعراقا شتى (مثل التاميل في الجنوب)*. وفي أثناء حركة الاستقلال الهندية، ومرحلة بناء الدولة بعد الاستقلال، كان الحفاظ على هذا التنوُّع ضمن حدود دولة وطنية واحدة مشروعا سياسيا صعبا ولكنه ضروري وأساسي.
بعد نيل الاستقلال عام 1947، صمَّم مؤسسو الهند نظاما فدراليا يُجسِّد ضربا فريدا من الوطنية. فقد أصبحت البلاد، كما يصفها الباحثون ألفرد ستيفان، وخوان لينز، ويوغيندرا ياداڤ، “الأمة-الدولة” (state-nation) (بدلا من “الدولة-الأمة” المُتعارف عليها في الأدبيات الحديثة)*. وبموجب تلك الصيغة، تمنح الدولة أقاليمها المتباينة قدرا من الحكم الذاتي لحماية هوياتها الاجتماعية-الثقافية المحلية، مع الحفاظ على تماسكها عبر شعور بالانتماء الوطني الهندي يُبنَى من الأعلى إلى الأسفل.
لا تزال السلطة في هذا النظام تميل إلى صالح الحكومة الاتحادية في نيودلهي، فلطالما نُظِر إلى وجود حكومة مركزية قوية على أنه أمر ضروري لتحقيق الأهداف الاجتماعية والاقتصادية الوطنية. فقد مُنِحَت الحكومة الاتحادية صلاحية إعادة رسم حدود الولايات، وتحديدا كي تتمكَّن من استيعاب هذا التنوع الثقافي والإثني. وفي محطات حاسمة من تاريخ الهند بعد الاستقلال، استخدمت الحكومة الاتحادية هذه الصلاحيات لتعزيز مشروع بناء الأمة.
على سبيل المثال، في خمسينيات القرن الماضي، أعادت الحكومة الاتحادية رسم حدود البلاد وفقا للخطوط اللغوية، استجابةً لحركات سياسية قائمة على اللغة تحوَّل بعضها إلى العنف. وبهذه الطريقة، استطاعت الهند أن تمنح الجماعات السياسية الإقليمية القائمة على الهويات الفرعيات تمثيلا أوسع ضمن حدود الدولة الوطنية.
كما أتاح الدستور الهندي ترتيبات فدرالية غير متماثلة، حيث منحت درجات متفاوتة من الحكم الذاتي لمناطق مُعيَّنة، بما في ذلك ولاية جامُّو وكشمير ذات الأغلبية المسلمة، وأجزاء من شمال شرق الهند الجَبَلي المُتنوِّع عرقيا. وقد جسَّدت هذه الفدرالية “أمة-دولة”، وصارت هي اللُّحمة التي حافظت على تماسك هذا البلد القاري وعلى ديمقراطيته.
كما أن الهياكل المالية والإدارية مالت بدورها نحو المركز، ولذا أمكن لكلٍّ من الحكومة الهندية الاتحادية والولايات أن تتعاون، وأن يُحاسِب بعضها بعضا ضمن نظام فدرالي مشترك. وكان مبدأ العدالة في تقديم الخدمات العامة هو الأساس الذي يستند إليه تقاسم السلطة بين المركز والولايات. مثلا، تملك الحكومة الاتحادية صلاحية جَمع الضرائب، لكنها تتبع صيغة يُحددها مجلس مالي منصوص عليه دستوريا لإعادة توزيع جزء من العائدات على الولايات.
وقد وصف بيمراو أمبِدكار، مهندس الدستور الهندي، الوثيقة بأنها “وحدوية وفدرالية في آنٍ واحد، بحسب متطلبات الزمان والظروف”. لكن في الممارسة العملية، تطورت في الهند ثقافة سياسية لا تلتزم بالمبدأ الفدرالي إلا بصورة ضيقة وأداتية.
فعلى مرِّ السنين، أساءت دلهي استخدام صلاحياتها الدستورية تجاه الولايات بشكل متكرر. وظهر ذلك صراحة حين أصبحت حكومة حزب المؤتمر الحاكم ذات طابع استبدادي في فترة “الطوارئ” بين عامَيْ 1975-1977، في عهد رئيسة الوزراء إنديرا غاندي، التي استغلت هذه الصلاحيات لإضعاف حكومات الولايات وفرض أجندتها الوطنية عن طريق المركزية المالية.
في تسعينيات القرن العشرين، ومع ضعف حزب المؤتمر، بدأت الأحزاب الإقليمية القائمة على الهوية تلعب دورا مهما في السياسة الوطنية، فقد شاركت في حكومات ائتلافية مع الأحزاب الوطنية وأحزاب إقليمية أخرى، مما أدى إلى كسر النزعة الوحدوية التي غذَّتها هيمنة حزب المؤتمر سابقا.
لكن هذا التوازن الجديد لم يكن يعني بالضرورة أن الثقافة السياسية في الهند أصبحت قائمة على التفاوض الجماعي من أجل حقوق الولايات. فالتصميم الفدرالي للهند، بما يشمله من مؤسسات لحل النزاعات، وتعيين الحكام من قِبَل الحكومة الاتحادية، والمؤسسات المالية؛ كل ذلك كان بحاجة ماسة إلى إصلاح حقيقي.
ولكن رؤساء وزراء الولايات المختلفة لم يكونوا متحمسين للتخلي عن سلطاتهم الجديدة من أجل أن تكون السياسة الفدرالية في الهند أكثر عدالة. وبدلا من ذلك، باتوا مُتمرِّسين في استغلال أهميتهم على المستوى الوطني لانتزاع الامتيازات والمكاسب من الحكومة الاتحادية، بالتزامن مع مراكمة رصيد سياسي ضمن النظام المركزي القائم. وهكذا، تغلَّبت الانتهازية السياسية على الأسس الفدرالية للدولة.
انكسار الفدرالية
عندما حصل حزب بهارَتيا جَنَتا على هيمنة شبه كاملة على السياسة الوطنية بعد فوزه الكاسح في انتخابات عام 2014، دخل النظام الفدرالي الهندي مرحلة جديدة. فعلى مدار العقد الماضي، تزعزعت التفاهمات الفدرالية الراسخة، وظهرت تصدُّعات جديدة في بنية العلاقة بين دلهي والولايات.
ويُعدُّ حزب بهارَتيا جَنَتا حزبا قوميا هندوسيا، ولأسباب أيديولوجية فإنه حزب مُتملمِل من مبادئ التوافق الفدرالي القائمة، إذ يُفضِّل بدلا منها هوية قومية واحدة تُعرَّف بالدين الهندوسي واللغة الهندية المنتشرة في الشمال، وهو ما ينعكس في شعار أيديولوجيا هندوتفا الشهير “الهندية، الهندوس، هندوستان” (Hindi, Hindu, Hindustan).
وقد حرص الحزب على عدم تحدي الأساس اللغوي التعددي للفدرالية الهندية مباشرة، لكنه حاول بصورة غير مباشرة في مناسبات عديدة، إذ دأب قادته على إطلاق تصريحات سياسية متكررة تصبُّ في تمجيد هيمنة اللغة الهندية، ما دفع الأحزاب الإقليمية إلى التمسُّك أكثر بسياسات الهوية اللغوية في مواجهته.
وقد نجم عن سياسات الهوية القومية توترات نجح النظام الفدرالي المُصمَّم بعناية في احتوائها لفترة من الزمن، لكنها بدأت تستعيد حضورها السياسي تدريجيا. ويظهر هذا بوضوح خاصة في الولايات التي لطالما كانت فيها الهوية اللغوية والثقافية مصدر فخر واعتزاز، مثل تاميل نادو.
جاء التحول الأكثر درامية للعقد الفدرالي الهندي عام 2019، حين أقدمت الحكومة الاتحادية بقيادة حزب بهارَتيا جَنَتا على إلغاء المادة 370 من الدستور الهندي، التي كانت تمنح ولاية جامُّو وكشمير ذات الأغلبية المسلمة وضعا خاصا وحُكما ذاتيا.
وقد تجاوزت الآليات التي نُفِّذ بها هذا القرار عدة خطوط حمراء في النظام الفدرالي للهند، فلم تكتفِ الحكومة الاتحادية بسحب الحكم الذاتي من الولاية، بل ألغت أيضا وضعها بوصفها ولاية من الأساس، وأخضعتها للإدارة المباشرة عبر خفض تصنيفها من “ولاية” إلى “إقليم اتحادي”. ورغم إجراء انتخابات محلية عام 2024، فإن وضعها بوصفها ولاية لم يعُد حتى الآن.
اتخذت الحكومة الاتحادية خطوة مماثلة تجاه إقليم دلهي الاتحادي، الذي يضم العاصمة نيودلهي. ففي عام 2023، أقرَّت حكومة مودي قانونا منحها صلاحيات إدارية مهمة كانت في يد حكومة إقليم دلهي، مثل قرارات نقل البيروقراطيين وتعيينهم، مما أدى فعليا إلى تجريد حكومة الإقليم المنتخبة من سلطاتها التنفيذية.
في حالتَيْ دلهي وكشمير قلَّصت الحكومة الاتحادية سلطات الحكومات الإقليمية، مما أدَّى فعليا إلى حرمان الناخبين الذين اختاروها من التمثيل الفعَّال. ورغم أن الحكومات الاتحادية في الهند لطالما أساءت استخدام سلطاتها لفرض إرادتها على الولايات، فإن قلَّة من الحكومات أقدمت على انتهاك روح العقد الفدرالي للبلاد بهذا الشكل الفج.
لقد تسبَّب هذا التجاوز في تقويض مبدأ “الأمة-الدولة” في الهند، حيث تُعدُّ الترتيبات الفدرالية غير المتماثلة أداةً أساسية لحماية التسويات المتعلقة بالحكم الذاتي الإقليمي، التي قامت عليها الدولة الهندية المستقلة. ولكن هذا المبدأ الدستوري بات الآن موضع شك. ولذا، فقدت حكومة الحزب الحاكم مصداقيتها السياسية في لعب دور الوسيط في التعامل مع سياسة الهويات العرقية والإقليمية عبر توفيق المصالح وتمثيلها، وفتح نفاد صبر الحزب إزاء مبادئ التوافق صدوعا جديدة في السياسة الهندية.
ويبدو ذلك جليا في ولاية مانيبور الواقعة شمالي شرقي البلاد، التي تشهد منذ صيف عام 2023 أعمال عنف عرقية، فأي تسوية سياسية للصراع في مانيبور، الذي يدور بين جماعتين قبليتَيْن، يتطلَّب الاستجابة للمخاوف السياسية لكلٍّ منهما، وهي مهمة لا تملك الثقافة السياسية الهندية الراهنة المصداقية ولا الحنكة السياسية اللازمة لإنجازها.
بين الحزب والجنوب: شد وجذب
في المجال الاقتصادي، صُمِّم النظام الفدرالي في الهند بحيث يلبي الاحتياجات التنموية الفريدة لكل ولاية، بغض النظر عن قدرتها الذاتية على توليد الإيرادات. ويستند هذا النظام إلى مبدأ أساسي مفاده ضمان وصول جميع المواطنين إلى خدمات عامة متكافئة، أينما كانوا، ويعني ذلك عمليا أن تشارك الولايات الأغنى جزءا كبيرا من عائداتها الضريبية مع الولايات الأفقر.
لكن اتساع الفجوة الاجتماعية-الاقتصادية بين الولايات أدى إلى تملمُل الولايات الأغنى من هذا المبدأ المعمول به منذ زمن طويل، إذ تقول تلك الولايات الآن إنه بمنزلة عقاب لها على نجاحها الاقتصادي، ومكافأة للولايات ذات الأداء الاقتصادي الضعيف.
على سبيل المثال، صرَّح رئيس وزراء ولاية كَرناتَكا الجنوبية عام 2024 أمام اللجنة المالية السادسة عشرة، وهي الهيئة المسؤولة عن وضع صيغة تحويل الضرائب للسنوات الخمس المقبلة، بأن الولاية تحصل على 0.15 روبية فقط من الإنفاق الاتحادي مقابل كل روبية تُسهم بها في الضرائب وفقا للصيغ الحالية المبنية على مبدأ التكافؤ بين الولايات، أما ولاية أوتَّار برادِش، فتحصل على 2.73 روبية مقابل كل روبية تُسهم بها.
إن إعادة ترسيم الدوائر المُرتَقَبة، التي من المتوقع أن تخسر فيها الولايات الجنوبية مقاعد برلمانية، لم تؤدِّ إلا إلى تفاقم التوتُّر والمخاطر المرتبطة بتلك النزاعات، لكن إيجاد حل لتلك المُعضلة ليس أمرا سهلا، لأن الابتعاد جذريا عن مبدأ إعادة التوزيع سيُصعِّب معالجة التفاوتات الاقتصادية الإقليمية المتزايدة التي غذَّت السخط من الفدرالية الهندية في المقام الأول. فالمناطق الأفقر تحتاج إلى موارد أكبر لسد الفجوة الاجتماعية والاقتصادية، لكن التفاوت المتزايد المستمر يجعل عملية تخصيص الموارد لها غير قابل للتحقيق سياسيا وعمليا.
وحتى سعي الولايات الأغنى إلى قدر أكبر من الاستقلال المالي، فإن ضرورات النمو الاقتصادي تدفع في اتجاه معاكس، إذ إن الاقتصاد الحديث النامي يتطلب التكامل مع الجوار. ولذا يجب أن يكون بمقدور السلع والخدمات والأشخاص أن يتحركوا بسلاسة عبر الحدود الداخلية، ومن ثمَّ هناك مبرر اقتصادي وجيه لاعتماد هياكل ضريبية مُوحَّدة بين المناطق، وأسواق وطنية تُنظَّم مركزيا، وخدمات عامة متجانسة عبر حدود الولايات.
إن الاقتصاد الأكثر مركزية ستكون له فوائد عديدة، لكنه يتطلب أيضا من الولايات أن تتنازل عن درجة من الاستقلال المالي. ففي عام 2017، توصَّلت الحكومة الاتحادية إلى تسوية كبرى مع الولايات في الهند بتمرير ضريبة السلع والخدمات (GST)، التي تطلَّبت من الولايات التنازل عن صلاحياتها في تحديد بعض معدلات الضرائب غير المباشرة، لصالح نظام ضريبي مُوحَّد ومُدار.
بيد أن الولايات مع فقدانها للاستقلال في مجال الضرائب على السلع والخدمات، أصبحت تشعر أكثر بأهمية الضرائب المباشرة وضرورة تعظيم نصيبها منها، مثل ضرائب الدخل التي يُعاد توزيعها من قِبَل الحكومة الاتحادية، وهي أحد الأسباب التي تدفع الولايات الأغنى إلى التذمُّر من النظام الحالي.
في النهاية، يمكن إدارة هذه التوترات وحلها عن طريق تدخُّل دقيق من الحكومة الاتحادية، كما هو الحال في المجال السياسي، استخدم حزب بهارَتيا جَنَتا سلطاته لتعميق المركزية في المجال المالي، مما قوَّض مصداقيته بوصفه وسيطا في هذه العملية.
مستقبل مُبهَم
إن نموذج تقاسم السلطة الحالي في الهند يمرُّ بأزمة، إذ إن الفدرالية التقليدية تكافح لتلبية متطلبات النمو الاقتصادي وحلِّ التفاوتات الديمغرافية بطرق ناجعة سياسيا. ولن تؤدي هذه الشروخ إلى مآلات جذرية مثل تأجيج الانفصالية مثلا، فالنجاح الكبير للفدرالية الهندية يكمُن في أن نموذج “الدولة-الأمَّة” متجذر بعمق، رغم الاستقطاب بسبب سياسات الهوية.
وحتى أولئك الذين يتحدُّون الوصول إلى تسوية فدرالية جديدة لا يزالون يسعون إلى حلول ضمن الإطار الفدرالي. ولكن مع تفاقم الانقسامات الاقتصادية والسياسية الإقليمية، ستزداد صعوبة الحُكم الوطني وحلِّ النزاعات، وسيغدو التوافق والتعاون بين الولايات، وبين الولايات والحكومة الاتحادية، أصعب من ذي قبل.
إن ضرورات السياسة الحزبية ستطغى على المحاولات المنضبطة لحل التوترات داخل النموذج الفدرالي، ومن المُرجَّح أن نشهد الوصول إلى حائط صدٍّ لا إلى تسوية حقيقية.
تدور في المجال العام الهندي عدة حلول ممكنة للأزمات السياسية والاقتصادية التي تواجه الفدرالية الهندية. مثلا، يمكن للهند أن تُجري إصلاحات في نظامها البرلماني، فقد صُمِّم مجلس “راجيا سابها”، أو مجلس الشيوخ، ليكون بمنزلة “مجلس للولايات”، لكن دوره تلاشى إلى حدٍّ كبير، فصار لا يتعدَّى كونه ساحة للسياسيين النافذين الذين يسعون إلى لعب دورٍ تشريعي دون الحاجة إلى الفوز في الانتخابات. لو تحوَّل “راجيا سابها” إلى منتدى حقيقي لتمثيل مصالح الولايات، فإنه يُمكن أن يتيح فرصا أكبر لإيجاد توافق سياسي جديد.
يمكن للهند أيضا أن تستغل كيانات موجودة بالفعل ولا تُستغل بما يكفي؛ لإجراء نقاشات بين الولايات وحلِّ النزاعات بينها. ففي أوائل التسعينيات، أنشأت الهند مجلسا بين الولايات للتوسُّط في العلاقات المالية والإدارية بين الولايات وبعضها، وكذلك بين الولايات من جهة والحكومة الاتحادية من جهة.
ولكنّ أيًّا من الحكومات المتعاقبة لم تتعامل مع هذا المجلس أو إمكاناته بجدية، ولذا هُمِّش على مدار العقود الثلاثة الماضية، وبات يُنظر إلى التعيين فيه من قِبل رجال البيروقراطية على أنه نوع من العقوبة نتيجة خطأ ارتكبوه، أو بمنزلة الخروج من دائرة الامتيازات.
إن تجديد العقد الفدرالي في الهند مسألة التزام سياسي بالمبدأ نفسه قبل أي شيء. أما تملمُل حزب بهارتيا جَنَتا من المبدأ الفدرالي فقد ترك البلاد دون وسيط يتمتع بالمصداقية في هذه اللحظة المفصلية. ومع الانقسامات التي ترسَّخت بالفعل في البلاد، ثمَّة حوافز قليلة تدفع الولايات أو الحكومة الاتحادية للمُضي قُدُما نحو إصلاحات ذات مغزى.
وبدلا من ذلك، من المُرجَّح أن تُشكِّل السياسة الفدرالية المُتصدِّعة ملامح الهند على مدار العقد المقبل، وعلى نحو قد يُقوِّض طموحاتها الاقتصادية. ولعل الأهم من ذلك أن الأزمة قد تُضعِف الرباط الذي جمع البلاد في كُتلة واحدة في المقام الأول، وجعل ديمقراطيتها تجربة فريدة من نوعها، فلطالما برهنت الهند للعالم على كيفية تعايش الهويات المتعددة ضمن إطار دولة قومية واحدة.
———————–
* إضافات المُترجم
هذا التقرير مترجم عن فورين أفيرز ولا يعبر بالضرورة عن موقف شبكة الجزيرة التحريري