طرابلس- يوم 12 مايو/أيار الماضي، قدّمت حكومة الوحدة الوطنية بلاغا رسميا لدى المحكمة الجنائية الدولية يقبل اختصاصها للتحقيق في جرائم ارتُكبت في ليبيا منذ 2011 وحتى نهاية 2027، في خطوة اعتُبرت افتتاحا قانونيا لمساءلة الفاعلين عن انتهاكات جسيمة.

وعاد الملف الليبي إلى الواجهة القضائية عندما قررت الدائرة التمهيدية للمحكمة الدولية في 8 أغسطس/آب 2025 رفع السرية عن مذكرة توقيف صدرت في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 بحق الزعيم الميداني سيف سليمان سنيدل، مما أعاد طرح السؤال المركزي: هل تكفي القرارات القضائية الدولية لتنفيذ فعلي لمحاكمة المتهمين بجرائم حرب على الأرض الليبية؟

وسيف سليمان سنيدل، الذي وُثق اسمه ضمن الوثائق السرية للمحكمة الجنائية الدولية منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2020، زعيم ميداني سابق في مجموعة الـ50 التابعة لـ”لواء الصاعقة”، إحدى الوحدات المسلحة من بقايا تشكيلات ما بعد 2011 المرتبطة بالمشير خليفة حفتر.

ووُجهت إليه اتهامات بارتكاب جرائم حرب تشمل القتل، والتعذيب، وإهانة الكرامة الإنسانية، ويُرجح أنها ارتُكبت في بنغازي ومحيطها خلال الفترة بين منتصف 2016 ومنتصف 2017.

رفع السرية

وتقول المذكرة إن سنيدل “شارك في ثلاث عمليات إعدام” راح ضحيتها 23 مدنيا، ويُعتقد أن جزءا من هذه الجرائم تزامن مع ما يُعرف بـ”مجزرة الأبيار”، حيث عُثر على جثث عشرات المعارضين السياسيين على أطراف مدينة بنغازي أواخر 2017.

ويُعد سنيدل أحد أبرز المقربين من القيادي المتورط في عمليات الإعدام محمود الورفلي، وقد تولى قيادة جزئية ضمن فرقة تضم صفوة عناصر الصاعقة بعد مقتله، لا سيما ضمن ما يُعرف بـ”الفرقة 20/20″.

ويمثّل رفع السرية عن المذكرة نقطة تحوّل؛ إذ صار بإمكان الإعلام والضحايا الاطلاع الآن على تفاصيل الاتهام التي ظلت مغلّفة بغلاف قانوني لسنوات، ما يعيد فتح ملف المحاسبة في أوسع نطاق لها منذ 2011.

وقبول حكومة الوحدة الوطنية لاختصاص المحكمة عبر إعلان المادة 12(3) من نظام روما يمد النيابة في لاهاي بصلاحية مباشرة للتحقيق بجرائم ارتكبت داخل ليبيا خلال الإطار الزمني المحدد.

لكنّ هذا التقدم القانوني لا يحرر التنفيذ من متطلبات سياسية وميدانية، إذ تظل مسؤولية تنفيذ أوامر القبض خصوصا داخل الأراضي الليبية رهينة لإرادة أجهزة الأمن المحلية، لارتباط بعض المطلوبين بشبكات نفوذ محلية، ولازدواجية السلطات في البلاد، حيث يمنح الإعلان صلاحية قضائية لكنه لا يمنح قوة عسكرية أو شرط تنفيذ.

حكومة الوحدة الوطنية تهدم سجنا سريا في طرابلس

هشاشة وفجوة

وتشرح المؤشرات الدولية لماذا قد تبدو مهمة التنفيذ صعبة، وتعطي “فريدوم هاوس” (منظمة حقوقية أميركية غير حكومية) ليبيا في 2025 درجة 10 من 100 ووضعية “غير حرة”، ما يعكس تآكل الحقوق المدنية وضعف استقلالية المؤسسات.

وعلى مؤشر هشاشة الدول سجلت ليبيا نحو 96.5 نقطة (في مؤشر 2024-2025)، ما يضعها بين دول تعاني ضعفا مؤسساتيا واضحا. وعمليا، هذا يقترن بغياب سلطة مركزية موحدة وقوة شرطة قادرة على تنفيذ أوامر قضائية في جميع أنحاء البلاد.

وتُظهر تجارب الأشهر الماضية أن التعاون الدولي لا يضمن التسليم إلى لاهاي إذا تداخلت ثغرات إجرائية، ففي يناير/كانون الثاني 2025 اعتُقل في مدينة تورينو الإيطالية الليبي أسامة نجيم بموجب مذكرة للمحكمة الجنائية الدولية ثم أُفرج عنه ونُقل إلى ليبيا بطائرة حكومية، في قرار أثار تحقيقات قضائية داخل إيطاليا وانتقادات حقوقية واسعة.

وفتح التحقيق الإيطالي باب نقاش حول دقة مذكرات الاعتقال والالتزامات الثنائية مع المحكمة، فيما كان توقيف آخر بارز في يوليو/تموز 2025 في ألمانيا؛ إذ اعتقلت برلين الليبي خالد الحشري أحد معاوني أسامة نجيم، بموجب أمر صادر عن لاهاي بتهم تتعلق بعمليات اعتقال وتعذيب في السجون.

وتعكس هذه الوقائع تراجع التعاون الدولي مع ليبيا وإمكانية عملها كدولة مستقلة تنفّذ أوامر المحكمة خارج إملاءات سياسية محلية.

الشارع منقسم

ويمنح رفع السرية الضحايا اعترافا قانونيا علنيا، لكنه يُبرز الحاجة الملحة لحماية الشهود وأسر الضحايا في بلد تعاني مؤسساته من عجز، وتهديد الشهود، والضغط على أسر الضحايا، وضياع الأدلة لضعف التوثيق المحلي، وكلها عوامل تُضعف ملفات النيابة أمام القضاة في لاهاي.

وكانت المحكمة قد دعت إلى قنوات حماية مشتركة مع بعثات أممية وشركاء دوليين، لكن تطبيق هذه التوصيات ميدانيا يبقى معقّدا.

من جهته، يقول الناشط الحقوقي جمال الفلاح، إن المحكمة الجنائية الدولية تعمل على إصدار عدد من مذكرات التوقيف المنتظرة في نهاية 2025، ومن ثم كان رفع السرية عن مذكرة سنيدل خطوة متوقعة ضمن حملة أوسع.

وأوضح الفلاح للجزيرة نت، أن رفع هذه القضايا للمحكمة جاء إلى حد كبير بطلب أسر الضحايا، وهو ما يجعل العائلات طرفا محوريا في مسألة مصداقية الدعوى. مضيفا أن النيابة تعمل منذ 2020 على ملاحقة مجموعة مرتبطة بمحمود الورفلي للاشتباه بتنفيذ إعدامات خارج القانون، وأن رفع السرية شمل شخصيات شرقية وغربية، ما يعكس اتساع رقعة التحقيقات.

ويقول الفلاح إن الشارع الليبي منقسم، وإن امتناع الأطراف المحلية عن تسليم مواطنيها سيرمي العبء على القضاء الليبي، وحذّر من أن منظمات المجتمع المدني نفسها تحتاج إلى حماية لتأدية دورها في جمع الأدلة والشهادات.

وأكد أن الحل العملي يتطلب إرادة قضائية وسياسية حقيقية وتشكيل لجان مشتركة بين القضاء الليبي والمحكمة الجنائية الدولية، مع آليات حماية محلية ودولية تتيح تحقيقات مرضية للطرفين.

مسارات محتملة

وتظهر أمام ملف المتهمين بجرائم حرب وانتهاكات، 3 مسارات متداخلة:

  • تعاون دولي محدود يؤدي إلى توقيفات متفرقة.
  • إفلات مؤقت بفضل حصانات محلية ودعم سياسي.
  • تسليمات ناجحة ومحاكمات في لاهاي إذا توفرت حماية للشهود وشراكات تنفيذية.

ويميل الواقع الراهن نحو المسارين الأول والثاني ما لم تتغير موازين القوى.

ومنذ اعتراف حكومة الوحدة باختصاص المحكمة الجنائية الدولية في مايو/أيار 2025، تضاعفت الآمال في كسر دوامة الإفلات من العقاب بقضايا مثل مقابر ترهونة، واختفاء شخصيات، والاعتداءات داخل السجون.

لكن إلى جانب هذا التقدّم القانوني، برزت مواقف موازية من شرق البلاد، ففي 27 يوليو/تموز 2025، أصدرت حكومة الاستقرار المنبثقة عن مجلس النواب الليبي بقيادة أسامة حماد، بيانا رسميا رفضت فيه الولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية على ليبيا.

ورأت في الإعلان الذي قدمته حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس وفقا للمادة 12(3) من نظام روما الأساسي، خطوة “منفردة وغير دستورية”، لأنه لم يُعدّ عبر هيئة ذات شرعية تشريعية متفق عليها، مما يجعل قبوله من قبل المحكمة “لاغيا قانونيا”، في انعكاس لامتداد الانقسام السياسي بين الشرق والغرب، ما يشكّل عقبة تنفيذية أمام التعاون الكامل مع لاهاي، ويعمّق الفجوات للعدالة الدولية.

وسط هذا التباين، يبقي السؤال عالقا، هل تنجح المحاسبة الدولية أخيرا في اختراق حصون الإفلات من العقاب داخل ليبيا، أم أن الواقع السياسي سيفرض شروطه الخاصة؟

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version