في وقت يتزايد فيه الإجماع على أن غزة مسرح لإبادة جماعية يتم بثها مباشرة، لعبت بعض أقوى المؤسسات الإعلامية الألمانية دورا في تمكين إسرائيل من ارتكاب جرائمها، حتى إن بعض الصحفيين الألمان برر قتل زملائه الفلسطينيين.
بهذه الجملة يلخص مقال للصحفي والكاتب المقيم في برلين هانو هاوينشتاين بصحيفة غارديان دور بعض المؤسسات الإعلامية في دولة تفتخر بأنها تعلمت دروس تاريخها من الإبادة الجماعية، ضاربا المثال على ذلك بشركة “أكسل سبرينغر”، أكبر ناشر في أوروبا ومالك صحيفة بيلد، أكبر صحيفة في ألمانيا.
فبعد ساعات من إعلان مقتل صحفي قناة الجزيرة أنس الشريف، نشرت بيلد صورته تحت هذا العنوان “إرهابي متنكر بزي صحفي قتل في غزة”، قبل أن تعدل العنوان لاحقا إلى “الصحفي المقتول كان يزعم أنه إرهابي”.
وذكر الكاتب في بداية مقاله بأن الفترة التي سبقت الهجمات المميتة هذا الأسبوع، اكتسبت فيها القصص التي تربط الصحفيين الفلسطينيين بحركة المقاومة الإسلامية (حماس) رواجا كبيرا، مع أن إسرائيل لا تحاول إخفاء قتلهم، بل غالبا ما تشوه سمعة ضحاياها مسبقا، مصورة الصحفيين على أنهم “إرهابيون”، لتجريدهم من صفتهم المدنية ليبدو قتلهم مقبولا أخلاقيا، مع أنه جريمة حرب.
جريمة بحق الصحافة
وكانت بيلد قد نشرت مقالا آخر قبل نحو أسبوع بعنوان “هذا المصور من غزة يروج لدعاية حماس”، استهدفت فيه المصور الفلسطيني أنس زايد فتيحة، واتهمته بتزييف صور لفلسطينيين يتضورون جوعا كجزء من حملة لحماس، رغم وجود أدلة على أن الأشخاص الذين ظهروا في الصور كانوا بالفعل يتضورون جوعا وينتظرون الطعام.
وقد تم تضخيم قصة بيلد، إلى جانب مقال مشابه في صحيفة “زود دويتشه تسايتونغ” بسرعة على منصة إكس من قبل وزارة الخارجية الإسرائيلية، التي استشهدت بهما كدليل على أن حماس تتلاعب بالرأي العام العالمي، وقد انضمت مؤسسة غزة الإنسانية وكذلك مؤثرون من اليمين إلى وصم فتيحة بأنه “كاره لإسرائيل واليهود” ويخدم حماس.
بعد ساعات من إعلان مقتل صحفي قناة الجزيرة أنس الشريف، نشرت صحيفة بيلد صورته تحت عنوان “إرهابي متنكر بزي صحفي قتل في غزة”
وفي هذه الحالة -كما يقول الكاتب- أصبحت وسائل الإعلام الألمانية مصدرا مباشرا لخطابات إسرائيل، التي سرعان ما أعيد تدويرها في الساحة الدولية، وأعيد تقديمها على أنها “أدلة”، وقال فتيحة ردا على ذلك “أنا لا أخلق المعاناة، بل أوثقها”، وأضاف أن وصف عمله بأنه “دعاية حماس جريمة بحق الصحافة نفسها”.
وكانت إحدى أكبر جمعيات الصحفيين في ألمانيا قد نشرت بيانا يحذر من “التلاعب” في التصوير الصحفي، مما أثار شكوكا حول صور تظهر أطفالا نحيفين في غزة، مدعية أن حالتهم “لا تعزى إلى المجاعة”، ولم تقدم أي دليل على هذا الادعاء، واكتفت بالإشارة إلى مقال نشر في يوليو/تموز في صحيفة “فرانكفورتر ألجماينه تسايتونغ”، تساءل فيه كاتبه هل صور الأطفال الرضع الهزيلين ناجمة بالفعل عن الجوع أم عن أمراض سابقة كالتليف الكيسي.
ونبه الكاتب إلى أن التحيز ليس جديدا على المشهد الإعلامي الألماني، إذ إن دعم وجود دولة إسرائيل يأتي في المرتبة الثانية ضمن قائمة المبادئ التوجيهية لشركة “أكسل سبرينغر”، مذكرا بمساهمة صحيفة بيلد في إفشال مفاوضات وقف إطلاق النار بنشرها تقريرا “حصريا”، بمقتطفات من إستراتيجية حماس سربها لها مساعدو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حسب الكاتب.
مبررات جاهزة
وفي التقرير، زعمت بيلد أن حماس “لا تهدف إلى إنهاء الحرب بسرعة”، مما برأ نتنياهو تماما من أي مسؤولية عن انهيار المحادثات آنذاك، وبعد وقت قصير من نشر تقرير بيلد، استشهد به نتنياهو في اجتماع لمجلس الوزراء لوصف المتظاهرين بأنهم أدوات في يد حماس.
ومع ذلك، تتجاوز المشكلة بيلد وأكسل سبرينغر بكثير -حسب هانو هاوينشتاين- ففي جميع وسائل الإعلام الألمانية العريقة، كان الفشل في تقديم تغطية متوازنة وقائمة على الحقائق لملف إسرائيل وفلسطين واسع النطاق، وأصبح جليا بعد هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، ولا تزال فيه دون تصحيح، مزاعم ملفقة، مثل كون حماس قطعت رؤوس 40 رضيعا، إلى جانب العديد من المعلومات المضللة المتعمدة الأخرى.
وتتجاهل وسائل الإعلام من مختلف الأطياف السياسية في ألمانيا السياق التاريخي بشكل روتيني، وتضع وفيات الفلسطينيين في إطار سلبي وغير مسيس، وتظهر ثقة شبه عمياء في “التحقق” العسكري الإسرائيلي، متعامية عن سجل موثق جيدا من المعلومات المضللة من مصادر حكومية إسرائيلية.
وفي يناير/كانون الثاني، نشرت صحيفة “دي تاغس تسايتونغ” اليسارية مقالا بعنوان “هل يمكن للصحفيين أن يكونوا إرهابيين؟”، استشهد المقال بالجيش الإسرائيلي 4 مرات، ولم يقتبس من أي صحفي في غزة، مما يسهم في تجريد الصحفيين الفلسطينيين من مصداقيتهم، وفي أسوأ الأحوال، يعطي إسرائيل مبررات جاهزة لاستهدافهم.