واشنطن- قبل دقائق فقط من قصف البرج السكني في مخيم النصيرات بقطاع غزة كان والد الشابة ندى جويفل يهاتف عائلته من مكان وجوده بالضفة الغربية، ولم يكن يدرك أنها ستكون آخر مكالمة يسمع عبرها أصوات 7 من أبنائه ووالدته (جدتهم)، قبل أن تطويهم غارة إسرائيلية مساء 31 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

قضت ندى نحو 9 ساعات وسط كتل الخرسانة وصمت الموت، وبقيت عالقة تحت سقف يضغط على صدرها موقنة أنها استشهدت، لكن بعدما سمعت شقيقتها الصغرى إلهام التي كانت تمسك بقدمها تلفظ أنفاسها الأخيرة هناك فقط شعرت أنها لا تزال على قيد الحياة.

تسترجع ندى بابتسامة حزينة تفاصيل نجاتها من تحت الأنقاض للجزيرة نت، وتقول إنها لم تُرد أن يصل إليها أحد في تلك اللحظات، كانت تنتظر أن تستشهد مع كل أفراد عائلتها، إذ أدركت أن أحدا منهم لم ينج، لكن إرادة الحياة تسللت إليها من جديد حين سمعت من تحت الركام خبر نجاة والدتها، فنادت بما استطاعت من صوت “أنا عايشة”.

أحلام مؤجلة

قبل اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 كانت ندى في الـ17 من عمرها تستعد لاجتياز عامها الأخير في الثانوية العامة وتحلم بأن تصبح طبيبة، إذ رسمت شقيقاتها الكبريات لها طريقا مليئا بالطموحات، إحداهن أنهت دراسة الهندسة المعمارية، وأخرى تخرجت من تخصص المحاسبة، وكن جميعا يتحدثن عن مشروع شركة عائلية تجمع تخصصاتهن.

ورغم الحصار الخانق الذي كان يطبق على حياة غزة فإن ندى تقول إن “غزة كانت أجمل مدينة في الدنيا”، كانت تتأمل شوارعها وأزقتها وتستمتع بأبسط تفاصيلها، فأحلامها كانت أكبر من قيود المعابر وانقطاع الكهرباء.

وتضيف ندى بابتسامة تحمل الكثير من الحنين “كنا نخطط في عام الحرب لحفلات التخرج، لحياة جديدة، كنت أنتظر أن أحقق حلم طفولتي وأن أصبح طبيبة لأساعد أطفال غزة”.

لكن كل تلك الأحلام توقفت فجأة تحت صخب الحرب حين تم قصف العمارة التي كانت تسكنها مع أسرتها المكونة من 11 فردا، ليبقى من تلك العائلة الكبيرة 3 فقط: هي ووالداها.

رحلة ألم وأمل

في تلك اللحظة التي ظنت ندى أنها الأخيرة التقط الصحفي معتز عزايزة صورة لها ستغير مصيرها، وتفتح أمامها رحلة علاج امتدت عبر 4 دول وأكثر من 75 عملية جراحية، حيث انتشرت الصورة في كل أنحاء العالم واختارتها مجلة “تايم” لاحقا ضمن أفضل 10 صور لعام 2023.

كل ما تتذكره ندى هو “شعورها بالإحراج من المصورين لأنها لم تكن ترتدي حجابها”، ثم وجه والدتها التي تعرفت عليها بصعوبة بسبب الركام.

تقول إنها لا تذكر تفاصيل خروجها من غزة إلى مصر، ثم نقلها إلى تونس، وهناك خضعت لعمليات جراحية أولية أنقذت حياتها، لتبدأ بعدها رحلة علاج طويلة لم تستسلم فيها لقرار الأطباء ببتر ساقها.

وفي تلك الفترة كان والد ندى يسعى إلى الوصول إليها من الضفة الغربية، حيث حصل على تأشيرة من السفارة التونسية في رام الله، لكن “السلطات الإسرائيلية اعتقلته في نقطة العبور مع الأردن (جسر الكرامة)، وتعرّض للتعذيب قبل أن يطلق سراحه بفضل تدخّل أقارب له في أوروبا”.

وتحكي ندى أن ملامح والدها كانت قد تغيرت كثيرا إلى حد أنها لم تتعرف إليه للوهلة الأولى عند لقائهما في تونس، وفي اللحظة التي اجتمع فيها أخيرا أفراد العائلة الناجون (الأب والأم وندى) أخبرهم الأطباء بقرار بتر ساقها.

“معجزة طبية”

وتقدّر ندى حجم الأمل الذي تمسكت به وعائلتها لإنقاذ ساقها بـ”ولو بنسبة 1%”، وكان حينها الصحفي الذي التقط صورتها الشهيرة قد أطلق نداء على صفحته من أجل مساعدة ندى، فتجاوب معه جراح الأعصاب الفلسطيني الأميركي سامي تفاحة من الولايات المتحدة.

كما تدخّل صندوق إغاثة أطفال فلسطين “بي سي آر إف” لمساعدة ندى ووالدتها للسفر إلى أميركا نهاية عام 2024 ومواصلة رحلة العلاج عبر الصندوق.

وفي مستشفى جونز هوبكنز بمدينة بالتيمور الأميركية بدأت مرحلة جديدة من رحلة ندى وصفها الأطباء بـ”المعجزة الطبية”، فبعد أن خيّرها الدكتور تفاحة بين بتر ساقها أو الخضوع لعملية معقدة غير مضمونة النتائج اختارت الطريق الأصعب.

تقول ندى “عندما سمعت كلمة بتر شعرت أن حياتي انتهت، خسرت عائلتي وأحلامي، ولم أستطع أن أتصور أنني سأخسر رجلي أيضا”.

ثم خضعت لعملية زرع أعصاب استغرقت 16 ساعة، لكنها واجهت مضاعفات خطيرة استدعت عشرات العمليات الجراحية الإضافية، ولا تزال رحلتها العلاجية مستمرة حتى اليوم.

رسالة للعالم

جلست ندى في واشنطن تحكي قصتها بابتسامة لم تفارق وجهها كأنها تعاند الموت الذي حاصرها تحت الركام، وبعد أن روت تفاصيل رحلتها الطويلة من مخيم النصيرات إلى غرف العمليات في أميركا ختمت قائلة “نحن أهل غزة بشر مثلكم، من حقنا أن نتعلم ونحلم ونعيش بسلام، كفى”.

لكن هذه الرسالة الإنسانية تصطدم بواقع سياسي مثير للجدل، إذ أعلنت وزارة الخارجية الأميركية في أغسطس/آب 2025 تعليق إصدار التأشيرات الإنسانية التي كانت تتيح للأطفال والجرحى من غزة دخول الولايات المتحدة لتلقي العلاج، وجاء القرار بعد ضغوط سياسية وحملات تشكيك رغم أن المستفيدين من هذه البرامج يخضعون لإجراءات أمنية مشددة.

وتحذر منظمات إنسانية مثل صندوق إغاثة أطفال فلسطين من أن وقف هذه التأشيرات يعني ترك مئات الأطفال المصابين يواجهون مصيرهم بلا علاج متاح، في وقت تزداد فيه الإصابات والحالات الحرجة يوما بعد يوم.

كما ارتفعت أصوات أكثر من 140 نائبا ديمقراطيا في الكونغرس مطالبة الإدارة الأميركية بالتراجع عن القرار الذي وصفوه بغير الإنساني.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version