طهران- على وقع تسويق المحور “الإسرائيلي الأميركي” نتائج عملية “الأسد الصاعد” كإنجاز تاريخي ضد إيران، جاء خطاب المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي عن انتصار بلاده في المواجهة -التي استمرت 12 يوما مع كل من إسرائيل وأميركا- ليربك روايتهما عن القضاء على البرنامج النووي الإيراني.
ووجه خامنئي، الخميس الماضي، أول كلمة لشعبه منذ نهاية الحرب مع إسرائيل، قال فيها إن بلاده حققت انتصارا على “الكيان الصهيوني الزائف” ووجهت “صفعة قاسية” للولايات المتحدة، معتبرا أن الأخيرة لم تحقق أي إنجاز رغم قصفها المنشآت النووية الإيرانية وخوضها الحرب “لأنها شعرت أن الكيان الصهيوني سيدمر بالكامل”.
وبعد سويعات من خطاب المرشد، لوّح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أمس الجمعة، بضرب إيران مجددا إذا عادت إلى تخصيب اليورانيوم، وأعلن أنه أوقف إجراءات كانت تهدف لتخفيف العقوبات عن طهران، معتبرا -في مؤتمر صحفي- أن “خامنئي يعلم أن تصريحاته بشأن الانتصار في الحرب مع إسرائيل كذبة”، علی حد قوله.
وعقب انقشاع غبار المعركة، بدأت تتسع في إسرائيل دائرة التشكيك في الرواية الرسمية حول نتائج الحرب، في حين توقعت الصحافة العبرية جولة جديدة من الحرب في قادم الأيام، مما يطرح تساؤلا جوهريا في إيران عن كيفية إدارة المرشد للمعركة العسكرية والحرب النفسية.
خطابان خلال الحرب
بعد سويعات من انتشار أنباء الاغتيالات الإسرائيلية التي طالت عددا من قادة الصف الأول والعلماء النوويين فجر الجمعة 13 يونيو/حزيران الجاري، سارع خامنئي إلى إصدار بيان خطي مقتضب لطمئنة شعبه، إذ توعد حينها إسرائيل بعقاب شديد، قبل أن يصدر أول خطاب تلفزيوني له تزامنا مع انطلاق الموجة الأولى من الصواريخ صوب إسرائيل، مشددا على أن “الكيان الصهيوني لن ينجو بسلام من هذه الجريمة”.
وبعد تهديدات أميركية باغتياله ودعوات إسرائيلية للإيرانيين لإسقاط النظام، أصدر خامنئي ثاني خطابه المصور في 18 الشهر الجاري، وقال فيه إن “إيران لن تغفر للكيان الصهيوني انتهاك أجوائها ولن تنسى دماء شهدائها”، كما حذر من أن “أي هجوم أميركي سيكون له عواقب وخيمة لا يمكن إصلاحها”.
ولا يخفى على المتابع للشأن الإيراني أن يلمس في خطابات المرشد الإيراني تحولا دراماتيكيا في السردية، بدءا من التوعد بعقاب صعب لإسرائيل مقترنا بنبرة غضب، ثم التحذير من جعل حياة الإسرائيليين مريرة، وصولا إلى تهنئة الشعب الإيراني بالنصر على عدو قال عنه إنه “سحق بالكامل تقريبا”.
السردية الإيرانية
ولم تأت سردية النصر في طهران اعتباطا، إذ برر خامنئي ذلك بكشف سماء الاحتلال الإسرائيلي أمام صواريخ بلاده وتدمير منشآتها العسكرية والأمنية، راسما بذلك صورة مشرقة عن القوة الصاروخية الإيرانية التي دكت حصون أسطورة “الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر”.
ووفق خامنئي، لم تحقق طهران النصر على إسرائيل فحسب إذ تحدث عن إخفاق الجيش الأميركي في تحقيق إنجاز من خلال استهدافه المنشآت النووية الإيرانية، بل تجاوز المرشد ذلك وتحدث عن “ضعف أميركا” من خلال استهداف الصواريخ الإيرانية إحدى أكبر القواعد الجوية في المنطقة، حيث تشير تقارير إيرانية إلى أن الهدف من عملية “بشائر الفتح” كان استهداف رادار أميركي عملاق للإنذار المبكر لعب دورا بارزا في تحديد مواقع إطلاق الصواريخ الإيرانية خلال فترة الحرب.
وعلى وقع الحرب النفسية التي يقودها الإعلام الغربي والعبري، أشاد خامنئي بالتعبئة الشعبية في بلاده و”وقوف الشعب سدا منيعا خلف قوات بلادهم المسلحة”، مستهزئا بدعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو -المطلوب ل بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة- الذي دعا الإيرانيين إلى ثورة ضد النظام الإيراني.
ولقطع الطريق على الفئات التي قد تعتب على طهران بسبب إصرارها على برنامجها النووي الذي دفع الشعب الإيراني ثمنه غاليا بالأرواح والأموال، وضع المرشد الأعلى إستراتيجية جديدة من خلال تحويل صراع الملف النووي إلى معركة وجودية بقوله إن “أميركا لن ترضى إلا باستسلام إيران” وإن هذا “أمر لن يحدث أبدا.. فأمتنا قوية”.
إدارة المعركة
يقول الباحث السياسي علي رضا تقوي نيا، في معرض قراءته لخطابات المرشد الإيراني، إنه منذ صبيحة الهجوم الإسرائيلي علی إيران تولى خامنئي -وهو القائد العام للقوات المسلحة الإيرانية- إدارة المعركة بحكمة ومهنية، إذ سارع إلى تعيين خلفاء للقادة العسكريين الذين طالتهم الاغتيالات الإسرائيلية، ثم أصدر بيانا لطمأنة الشارع الإيراني من أن أركان الدولة صامدة، وركز على استعداد القوات المسلحة لـ”إيلام العدو”.
وفي حديثه للجزيرة نت، يوضح تقوي نيا أن المرشد الأعلى وظف اللغة “سلاحا بوجه العدو” فبدلا من التوعد بالانتقام استخدم عبارة “تغيير المصير للكيان الصهيوني” للدلالة على التحول من ردة فعل إلى مشروع إستراتيجي يتمثل في إزالة الاحتلال.
وتابع المتحدث نفسه أن خامنئي عزف على وتر “الرد الموجع فورا” عدة مرات في خطاباته، في إشارة إلى البدء الفوري للحرب الشاملة على الجانب المعتدي الذي شن حربا مفتوحة على بلاده، مما يبرر الرد الإيراني غير المحدود.
وحسب الخبير، تعمد خامنئي إرسال رسالة مفادها أن بلاده قادرة على ضرب أميركا والاحتلال الإسرائيلي دون دفعها ثمنا باهظا، مشددا على أن استهداف القواعد الأميركية “عمل قابل للتكرار” مما يجعل من ضرب المصالح لأميركية في الشرق الأوسط خيارا إستراتيجيا قد تلجأ إليه طهران حيثما تراه ضروريا.
وخلص الباحث الإيراني إلى أن خطاب النصر الذي وجهه المرشد الإيراني الأعلى لشعبه قبل أيام تجنّب الإعلان عن “نهاية المواجهة”، مما يترك الباب مفتوحا لقوات بلاده للرد بسرعة على أي انتهاك لوقف إطلاق النار وليس “هدنة كما يروج لها الجانب الأميركي”، على حد قوله.
سردية النصر
من جهته، يشير الباحث السياسي جلال جراغي إلى أن خطاب النصر الذي أصدره خامنئي الخميس الماضي جاء متوافقا لما وعد به الشعب الإيراني من قبل، إذ توّج برفض طهران أي سلام مفروض عليها رغم طلب ترامب استسلامها غير المشروط وإنهاء برنامجها النووي.
وفي حديث للجزيرة نت، يوضح الباحث الإيراني أنه عند الحديث عن النصر أو الهزيمة في الحرب يجب النظر في الأهداف المعلنة من شنها، مضيفا أن تل أبيب أخفقت في القضاء على البرنامجين الصاروخي والنووي في إيران، لا سيما أن التقارير الاستخبارية الغربية تكذّب ما ذهب إليه ترامب بخصوص تدمير المنشآت النووية الإيرانية، ناهيك عن أن طهران شنت هجمات صاروخية مكثفة على قاعدة العديد، ومواقع عدة في إسرائيل قبيل وقف إطلاق النار.
وأضاف أن ترامب توقع بعد الهجمات الإسرائيلية أن تعود إيران إلى طاولة المفاوضات لفرض شروطه في المحادثات اللاحقة، لكن طهران لم تتجاوب بعد مع المسار الدبلوماسي الذي استخدمه ترامب لتضليلها، مؤكدا أن البرنامج النووي الإيراني لم يعد تحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية حتى اللحظة، و”أعداؤه فقدوا معلومات حيوية عنه”.
وخلص جراغي إلى أن الجانبين الأميركي والإسرائيلي لو كانا يستطيعان تحقيق نتائج أفضل من الحرب لاستمرا حتى النصر النهائي، غير أن إدارة المرشد الإيراني للمعركة حالت دون تحقيق أهدافهما المرسومة.