يُكتب الشعر في أنحاء الوطن العربي بأسلوبين مختلفين، أحدهما هو الأسلوب فصيح اللغة الذي يماثل في لغته الشعر العربي القديم الذي ورثناه عن آبائنا العرب، وهو شعر معروف بشعرائه، وشعرهم المروي الذي نجده في كتب المجموعات الشعرية المشهورة، وفي دواوين الشعراء التي يستطيع كل راغب أن يحصل عليها في وقتنا الحاضر، وذلك لأن عددا كبيرا منها قد جرى تحقيقه وطبعه ونشره.
وأما الأسلوب الثاني للشعر الذي نتحدث عنه فهو ما يكتب بلهجة البلد الذي يعيش فيه الشاعر، ويكون – عادة – متأثرا بعادات ذلك البلد، وسلوك أهله، وما دخل في حديثهم اليومي من تحور أدى إلى ظهور ما عرف باسم: اللهجات.
وفي الكويت كما في سائر أجزاء الوطن العربي شعر فصيح يبدعه شعراء اختصوا بمثل هذا النوع، وهو شعر مكتوب باللهجة العامية ويتكون من نوعين رئيسين أولهما ما يطلق عليه اسم: الشعر النبطي (بسكون الباء) وهو شعر يقال بلهجة عامية هي أقرب إلى الفصحى، وتكون أكثر قصائده طوالا، وقد اشتهر به عدد كبير من شعرائنا منهم عبدالله الفرج وحمود الناصر البدر ومحمد الفوزان وغيرهم، وأما النوع الثاني فهو ما يمكن أن نطلق عليه اسم الشعر الشعبي، وكان من أبرز شعرائه عندنا الشاعر فهد بورسلي وأمثاله من شعراء هذا الفن.
وأنواع الشعر الشعبي الكويتي متعددة منها ما ينتشر في الاحتفالات الرسمية، أو الأعياء، ومثاله ما يقال في رقصة العرضة المعروفة، ومنها ما ينشد في الأفراح والليالي الملاح مثل السامري بأنواعه المختلفة، ومنها ما يتعلق بمناسبات أخرى متنوعة، لكن من أهم ما كان ينشد من هذا الشعر هو ما يطلق عليه اسم: التنازيل البحرية. وهي أناشيد متنوعة الألحان والموضوعات تتردد على ألسنة البحارة في أثناء عملهم.
ومن أنواع الغناء البحري ما يطلق عليه اسم: النهمة، وهي أغان مرتجلة يرددها النهام الذي سمي بهذا الاسم بسبب ما يقوم به من غناء.
ولقد كنا نستمع – في الماضي – إلى أصوات النهمة البحرية، حين يشدو بها النهامة أثناء عودتهم من تلك الرحلات التراثية الكويتية الشهيرة، وكانت تتردد في مواقف معينة ومتعددة أثناء القيام بالعمل، فتثير ذلك الحماس في النفوس.
يطلق النهام صوته فينتعش زملاؤه ويقبلون على العمل مهما كانت الأمور المحيطة بهم شاقة.
وهذا هو ما ينبغي أن يذكر عن النهمة والنهام:
للفظ النهمة عندنا معنى يقارب – كثيرا – المعنى الذي نجده له في اللغة العربية الفصحى، وقد دلنا على ذلك ما رواه محمد بن مكرم بن منظور، في كتابه «لسان العرب» – مادة «نهم» – حين روى حديثا مسندا إلى سيدنا عمر بن الخطابرضي الله عنه، فقد تحدث راوي هذا الخبر عن ذلك فقال: «تبعته، فلما سمع حسي ظن أني إنما تبعته لأوذيه، (فنهمني)، وقال: ما جاء بك هذه الساعة؟ وقد فسر ابن منظور لفظ (نهمني) بقوله: زجرني، وصاح بي: والنهام عندنا – كما تبين فيما مضى – هو الذي يعلو صوته بالنهمة.
وروى ابن منظور – أيضا – حين أراد أن يبين معنى لفظ (النهامي)، بكسر النون، فقال:
«هو الراهب، لأنه ينهم، أي يرفع صوته بالدعاء، ومن هنا جاء لفظ النهمة إلينا. وتبعه لفظ: النهام، وهو الذي يرفع صوته بها».
وتحت مادة (نهم) كتب محمد مرتضى الزبيدي في كتابه: «تاج العروس، من فرائد القاموس» ما يلي:
والنهم والنهيم: صوت كأنه الزحير، يشبه الأنين.
وقال: «نهم ناقته: زجرها بصوته، لكي تمضى في سيرها، وقال: ناقة منهام: تطيع على النهم».
ومما تقدم يتبين لنا أن من معاني لفظ (نهم) إطلاق الصوت عاليا، تماما كما يطلق النهام العامل في البحر صوته.
٭ ٭ ٭
في الفترة التي انتعشت خلالها الرحلات البحرية من الكويت وإليها، وذلك بأنواع هذه الرحلات التي تضم: السفر والغوص والقطاعة ازدهر فن الزهيريات التي كانت هي مادة النهمة التي ينشدها النهام بقصد إثارة الحماس في نفوس العاملين معه أثناء تلك الأسفار.
ولقد صارت الزهيريات فنا منفردا بذاته، وصار شعراء الكويت يتسابقون إلى كتابة نصوص تمثل هذا النوع من الشعر الشعبي الذي كان موضع شدو كل نهام. وكان من بين هؤلاء الشعراء الشاعر عبدالله محمد الفرج، ومحمد الفوزان، وحمود الناصر البدر، وغيرهم.
ومن زهيريات الشاعر عبدالله الفرج قوله:
يا مقلتي تنزحين الدمع من عيني
كفي ومن طول مد النظر منعيني
ماني سواتك بهذا الحال من عيني
انتي سبب هيمتي بالشوق قالت: بلى
ريم نطحني وسلب عقلي وجسمي بلى
يا عين أنت التي سقتي علي البلا
من أين أراعي كثر بلاي من عيني
ومن زهيريات الشاعر حمود الناصر البدر قوله:
عفنا المنازل بسرعة والمقدر صار
والليل صوب الأوده كيف حاله صار
العمر كفات كفتني بحبله وصار
ما ظن في مهجتي لادياركم وقري
ومدامعي لم تزل فوق الوجن تقري
يا خوي لا جاك خطى فسره واقرا
واسأل على حال خيك باي ديره صار
وأما الشاعر فهد بورسلي، وهو متأخر زمنيا عن الشاعرين المذكورين آنفا، فقال:
يا عيد الأفراح ونسهم وأنا هملي
وأعيون الأضداد مستره وأنا هم لي
مليان قلبي مصايب والحشا هملي
أنا وقلبي على نار الغضا نصله
متقاسمين الحزن نص لي وهو نص له
امنين ما صابته نصله على نصله
ضرب السهم بيننا هم له وأنا هم لي
٭ ٭ ٭
ونمضى في حديثنا هذا إلى اتجاه آخر فنذكر ما يلي:
عرف آباؤنا العرب الشعر منذ أيام ما قبل الإسلام بمدى بعيد، وقد وردت إلينا من أشعارهم القديمة قصائد طويلة وقصيرة ذات معان رائعة، وإيقاع موسيقي جميل.
ولقد أورد محمد بن سلام الجمحي في كتابه: «طبقات فحول الشعراء» الذي حققه أستاذي محمود محمد شاكر مثالا لهذا الشعر، اختاره من أقدم ما وصل إليه من شعر الجاهلية، وذلك حين ذكر قول الشاعر:
إذا ما المرء صم فلم ينادى وأودى سمعه إلا ندايا
وداعب بالعشي بني بنيه كمثل الهر يحترش العظايا
يداعبهم وودوا ولو سقوه من الذيفان مترعة ملايا
والشعر – كما هو معروف – يختلف عن النثر، فهو القول الموزون الذي ينتهي بقافية متشابهة قد تمتد إلى القصيدة كلها، او تنحصر في فقرات محددة منها، إذا كانت القصيدة مكونة من فقرات.
وكان أول من تنبه إلى أوزان الشعر العربي: الخليل بن أحمد الفراهيدي، المتوفى سنة 174هـ (791م).
وقد تتبع هذا العالم اللغوي الفريد الشعر العربي الذي وصلت إليه روايته، وأحاط به، فجعله مقسما وفق مقاييس سماها البحور، رصد منها ستة عشر بحرا، وأطلق على كل بحر اسما خاصا به.
ثم تناول – من بعده – دراسة عمل نظام الشعر الذي أطلق عليه اسم (علم العروض) عدد كبير من العلماء، وزادوا على ما اكتشفه الخليل بن أحمد منه، وألف بعضهم كتبا في هذا الشأن حتى عد علم العروض واحدا من علوم اللغة العربية.
ولقد وجدت أن أقرب الكتب تناولا لهذا العلم هو الكتاب الذي ألفه الشيخ أحمد الهاشمي، فقد عرض فيه هذا العلم عرضا ميسرا مضافا إليه ما طرأ عليه من أنواع الأوزان بعد المراحل الأولى التي أشرنا إليها. وكان اسم هذا الكتاب، هو: «ميزان الذهب، في صناعة شعر العرب»، وقد تناول فيه جميع أنواع وأوزان الشعر الفني توصل إلى العلم بها حين ألف كتابه هذا، ومن أجل ذلك فقد وجدناه يذكر الزجل والمواليا، وما كان يسمى الكانكان، ثم القوما وكلها من الفنون اللاحقة. ومن مثال الكانكان قول الشاعر:
يا قاسي القلب مالك تسمع وما عندك خبر
ومن حرارة وعظي قد لانت الأحجار
أفنيت مالك وحالك في كل مالا ينفعك
ليتك على ذي الحالة تقلع عن الإصرار
ولو أردنا أن نمثل لباقي الفنون لاستغرق ذلك وقتا طويلا، ولكن ما لابد من ذكره أن هذه الفنون المشار إليها أخيرا ليست من الفنون البحرية البحتة، بل كانت تقال في كل مجال.
هذا، ولقد كان من أشهر ما وصل إلينا من الشعر الذي أبدعه شعراء الأندلس العرب: فن يطلق على مجموعة اسم: الموشحات، ومفرده موشح، وهو نوع متعدد الأوزان، خفيف اللفظ، يحلو سماعه، ويسر النفوس غناؤه، يخرج عن أوزان الشعر العربي المعتاد، ولكنه يتصف بالرقة، وحسن القول. ومن أمثاله قول أحدهم:
يا من هجا المحب عمدا وسلا ورماه على اللظى قتيلا وسلا
ما القول إذا سئلت عن قتله يا قائلا، بأي ذنب قتلا
ولقد قال هذا النوع من الشعر كل شعراء الأندلس تقريبا، وانتقل بين الناس في الرواية في أقطار العالم الإسلامي كافة، وتناقل الناس أنواعا منه وأوزانا حتى وصل الأمر به إلى وقتنا الحالي، فصار يقال باللهجة العامية على وزن مقارب لبعض أوزان الموشحات، وإن كان يكتب باللهجة العامية. وصار هذا النوع معروفا في عدد من بلدان العرب وبخاصة في الكويت والخليج العربي وما جاور الكويت شمالا، وهو – عندنا – فن من فنون الشعر القديمة ذكر ممن أجاده من شعرائنا الشاعر عبدالله محمد الفرج الذي ولد في سنة 1836م. وكانت له مقطوعات كثيرة من هذا الفن الشعري وردت في ديوانه المطبوع. وقد ذاع اسم (الزهيريات) على هذا النوع دون غيره، ومن الواضح أن هذه التسمية جاءت متأخرة، ولكنها سارت على الألسنة.. مع أن هذا النوع من الشعر كان يطلق عليه اسم: الموال، وكان يردد منذ زمن بعيد في رحلات البحر في طول منطقة الخليج العربي وعرضها.
٭ ٭ ٭
ولقد أردت في يوم ما أن أضع فقرات من هذا النوع الشعري الذي وصفته هنا. وكان أهم ما كان يشغل بالي – وقتذاك هو الوطن وأهله. وقد خرجت من هذه التجربة بعدة فقرات اتبعت بها النمط الذي ذكرته مؤخرا، وأنا هنا راغب في أن أقدم نماذج مما كتبت، وهي نماذج تمثل القسم الأول مما خرجت به في تجربتي هذه. ومما قلته:
(1)
يا كويتنا انتي لنا منبع صافي
تصخين طول الزمن في خيرج الوافي
ولا تردين عاني لج ولا شافي
عشنا أهل فيج تجمعنا محبتنا
إخوان دنيا عمرنا ما تشتتنا
يا ديرة الخير إنتي ساس نعمتنا
ما عاش منهو ترينه يوم لج جافي
(2)
أهل الوفا ما نسوا اللي فعلتي يوم
بقلوبنا لج محل يذكر صفاتج دوم
واللي فعلتيه في درب الوفا معلوم
يا كويتنا يا كويتنا دربج خضر مفروش
إبزينة الأزهار وماي الورد هم مرشوش
ما فاز فيج الذي في رغبته مغشوش
يلقي زواله وهو من كل أمل محروم
(3)
يا كويت سيري بنا في رايه مرفوعة
خاب الذي يحسدج وانهار مشروعه
عشتي بلادي أبد في كلمه مسموعه
يحميج ربي على طول المدى ويرعاج
والشعب كله على أمرج مشى وياج
واذا طلبتي افعاله العالية وراج
ما عادت الدرب دون العز مقطوعه
(4)
يا أهل الوطن هذا الوطن محبوب
يفعل لكم كلكم ما زاد في المطلوب
جازوه في جمعة حوله وصافي اقلوب
الود ما بينكم لبلادكم حارس
قال الذي بالمعرفة عالم دارس
ما فاز في الدنيا الذي دون العمل جالس
تمضي حياته وهو بين البشر مغلوب
(5)
قال الأمير انهضوا يا عزوتي الأحرار
شوفوا الذي چد جرى في ساير الأقطار
وامشوا عزيزين منصورين مهما صار
أنا الأمير الذي دايم إيناديكم
حطوا معي بالوفا الصافي أياديكم
صيروا قويين أو كيدوا في أعاديكم
الوقت وقت العمل والعز له أخبار
(6)
سمعا وطاعه لك على كل الأزمان
يا اللي ايساعدنا على كل ما كان
والكل منا له على طول أعوان
شفنا محلك في ما العز عالي
تحيا ومكانك نرى بقلوبنا غالي
نفديك بقلوبنا وبكل العيال
والروح ندفعها على ذاك برهان
(7)
الكل منا شاف فعلك مع قولك
والكل منا دايم الدوم من حولك
نطلب وندعي يحفظ الله لنا زولك
والكل منا بادلوك المحبة
يا جامع بالخير كل الأحبه
عارف إبكل ما حل في الناس طبه
يا شارب طبع الوفا من أصولك
(8)
عشنا بديرتنا على كل حاله
ما فينا اللي دار للمال باله
ولا الذي يمشي ادروب الرذاله
إحنا هوانا من هوى الدار صاير
لو دارت الدنيا ومرت عباير
الكويت أمنا لكن الضد باير
ترى الوطن غالي ولا من بداله
(9)
إنتو اخواني كلكم في سفينة
تعبر بكم بحر شماله يمينه
والموج يلعب بالنفوس الرصينه
إن ما تكاتفوا وصرتوا حبايب
أو ما تعاونتوا وزحتوا المصايب
دار الخطر من بيننا والحرايب
بالود عيشتنا وطنا يبينا
(10)
اشلون نرفع راسنا في وطنا
واشلون نعطي للوطن ما تمنى
إلا ابجمعتنا ولمة أهلنا
ما تذكرون اشلون بالحال كانوا
وشلون شدوا حيلهم ما توانوا
على الوفا ويا المحبة تدانوا
يا زين أيام مضت واتركتنا
(11)
يا خوي يا كويتي نصحتك نصيحه
إذا بغيت تعيش عيشه صحيحه
واتشوف في دنياك دنيا إمريحه
إحرص على الطبع الحسن في حياتك
وإذا لقيت الناس إنت وذاتك
أتزيد في قدرك وتعلا غلاتك
اسمع نصيحه من امحب صريحه
(12)
يا دارنا اللي في ظلالج نشينا
ما غيرج بالعون شي علينا
وأحنا ابما يرضيج كلنا رضينا
من يوم فتحنا على الدار العيون
شفنا أهلها للمعالي يصعدون
واحنا نحب اللي أهلنا يحبون
نرضى الدهر وياج شينه أو زينه
٭ ٭ ٭
هذا ما اخترته من المجموعة الشعرية التي كنت قد كتبتها من قبل، وأرجو أن تكون معبرة عن محبتي لوطني وأميره الغالي، وأتمنى من بني وطني أن يكونوا – بحبهم لوطنهم – على أفضل ما يكون المواطن في بلاده حبا لها ولأهلها، وحرصا على كرامتها.