نور حياتي جومادي، قروية تعيش في جزيرة أوبي الإندونيسية، لا تزال تذكر بستان الكاجو الذي كان يحتفظ به جدها قرب نبع ماء، تقول “لم يكن يأخذ معه الماء عندما كان يذهب إلى هناك، كان ببساطة يشرب مباشرة من النهر”.

وعلى مقربة من منزل جومادي الخشبي الصغير في قرية كاواسي، يقع منجم نيكل ضخم مملوك لمجموعة هاريتا، وهي تكتل إندونيسي كبير ينتج مئات الآلاف من أطنان التربة ذات اللون الأصفر القريب من البرتقالي سنويا، وتمتلك مصنع صهر قريب من هناك، ينفث الدخان في الهواء.

منذ بدء التعدين، قالت جومادي، إنها بدأت تسعل قيحا ودما، مثل العديد من القرويين الآخرين، بينما لا تزال تشرب من نبع كاواسي، الذي يجري اليوم ممتلئا برواسب سميكة ذات لون بني داكن، وعندما سُئلت عن السبب أجابت: “لا أعرف”.

تعقبت مؤسسة “مكافحة الجريمة المنظمة والفساد” (OCCRP) الرابط بين تغير لون الماء والمصانع الجديدة المفتوحة حوله وحالة جومادي، ووجد تحقيق استقصائي عمل عليه صحفيو المؤسسة، أن مناجم النيكل الإندونيسية التابعة لمجموعة هاريتا تغذي سلاسل التوريد لعدد من كبرى شركات تصنيع السيارات الكهربائية في العالم، لكنها في الوقت نفسه كانت تحقن المياه المحلية لسنوات بمادة كيميائية سامة تعرف باسم “إيرين بروكوفيتش”، أو “الكروم 6”.

نفي علني

بداية، تعد مجموعة هاريتا منتجا رئيسيا للنيكل في العالم، وهو مكون أساسي في بطاريات السيارات الكهربائية والفولاذ المقاوم للصدأ، وعلى مدار العامين الماضيين، وفرت الشركة نحو 6% من الإمداد العالمي لهذا المعدن.

بدأت هاريتا عملياتها في جزيرة أوبي عام 2010، وتم الترويج لها كمشروع اقتصادي بارز لإندونيسيا، وكان من المطلوب قانونيا، أن تخضع لاختبارات بيئية دورية، بل إنها حصلت على جوائز وطنية لممارساتها المستدامة، لكن المخاوف بشأن تأثيرها البيئي بدأت تتزايد في السنوات الأخيرة.

وفي فبراير/شباط 2022، ذكرت صحيفة “الغارديان” أن مياه الشرب في كاواسي تحتوي على مستويات عالية من الكروم 6، وأظهرت الدراسات، أن التعرض لهذه المادة يسبب مشاكل صحية خطِرة، بما فيها تلف الكبد والكلى وسرطان الجهاز التنفسي وتقرحات الجلد.

نفت مجموعة هاريتا نتائج صحيفة “الغارديان” وسعت إلى التقليل من تأثير عمليات استخراج النيكل على البيئة، لكن خلف الكواليس كانت المناقشات الداخلية للتكتل مختلفة تماما عن مواقفه العلنية، وفقا لتحقيق أجرته صحف عالمية بالتعاون مع مؤسسة “مكافحة الجريمة المنظمة والفساد”.

فقد أظهرت مراقبة هاريتا الداخلية تلوث المياه المحيطة بقرية كاواسي بمادة الكروم 6، وفقا لمئات من رسائل البريد الإلكتروني المسربة وسجلات الفحوصات ووثائق أخرى، كما أظهرت البيانات التي تم جمعها قبل يومين فقط من نشر قصة الغارديان، أن مستويات الكروم 6، كانت فعلا تتجاوز الحدود القانونية في ذلك الوقت.

في الوقت نفسه، واصلت المجموعة استخراج النيكل وأطلقت مصنع معالجة النيكل المستعمل في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية على بعد 200 متر فقط من نبع كاواسي، بينما لا يزال عدد كبير من سكان جزيرة أوبي يستحمون ويطبخون ويشربون من ماء النبع.

تقول جومادي إنه “لم يكن هناك أي إشعار من الشركة”، ويقول أحد السكان المحليين كان يعمل سابقا لدى هاريتا إن “المياه المعبأة متوافرة بالنسبة لمن يملكون المال، أما بالنسبة لأمثالي، فلا يوجد خيار سوى استخدام مياه النبع”.

Nickel mining facility in the village of Kawassi, District of Obi, Obi Island, South Halmahera Regency, Tuesday, Oct. 18, 2022, showing nickel mining run offs from the River Kawassi streaming behind the village, and in the distance, nickel ming run offs from River Todoku. At least five nickel mining companies are operating in the area behind Kawassi village, such as PT Trimegah Bangun Persada, PT Megah Surya Pertiwi (MSP), PT Gane Perm Sentosa, PT Halmahera Jaya Feronikel (HJF) and PT Harita Persada Lygend. The island opposite is Malamala Island, whose nickel mining concession is held by PT Rimba Kurnia Alam. All companies are subsidiaries of the Chinese-funded Harita Group. In the far distance is Obilatu Island. There are two coal-powered power plants in the area, according to Carbonbrief.org, namely the Jinchuan Group WP & RKA Power Station, with the capacity of 150 megawatt and carbon emission of 0.76 megaton/year, and MSP Pulau Obi Power Station, with the capacity of 114 megawatt and carbon emission of 0.58 megaton/year. The mining in Obi Island has been affecting the locals, due to water pollution from nickel run-offs, air pollution due to smog and dust, and land grabbing. Access to rivers as such River Todoku and River Kawassi in the village is no longer available, since river water has turned ochre-colored and no longer consumable by locals. A lake close to the area is Lake Karo, whose water level gradually decreases due to its supply for nickel mining activity around the lake. The majority of the world's nickel reserves is in Indonesia. By 2025, the country is expected to produce more than 60% of the world's nickel supply, which is used for making batteries for electric vehicles. (Photo by Joshua Irwandi/For The Washington Post via Getty Images)

باقية وتتوسع

يطلب القانون الإندونيسي من شركات التعدين تخفيف الأضرار البيئية المحتملة من خلال مراقبة مياه الصرف والمياه الجوفية وتقديم تقاريرها إلى السلطات عن نسبة المواد الكيميائية، بما فيها الكروم 6.

عند تسجيل مستويات أعلى، تواجه الشركات تدقيقا متزايدا من السلطات، ويجب عليها اتخاذ إجراءات، وإلا فقد تواجه عقوبات تتراوح بين الغرامات وإغلاق النشاط التجاري، أو حتى الملاحقة الجنائية.

وتظهر الوثائق المسربة، أن مستويات الكروم 6 في المياه الناتجة عن أحد مناجم هاريتا، كانت 3 أضعاف الحدود القانونية في وقت مبكر من عام 2012.

وبحلول عام 2013، بدأت هاريتا في محاولة تقليل مستويات التلوث ببناء “برك ترسيب”، وهي أحواض ضحلة مصممة لحجز المياه الملوثة ومنع تدفقها للخارج، كما بدأت الشركة في معالجة مياه الصرف بكبريتات الحديد واستخدام الأراضي الرطبة لامتصاص التلوث.

لكن الفحوصات الداخلية أظهرت، أن هذه الجهود فشلت في منع مستويات الكروم 6 من الاستمرار في تجاوز الحدود القانونية.

وجاء في التحقيق الذي قادته مؤسسة “مكافحة الجريمة المنظمة والفساد” أن كبار المسؤولين التنفيذيين في الشركة كانوا على دراية بهذه الانتهاكات.

وبحلول عام 2018، وسعت هاريتا عملياتها في جزيرة أوبي، حيث بدأت في بناء مصفاة تستخدم عملية متخصصة تعرف باسم “الترشيح الحمضي عالي الضغط” لتحويل النيكل منخفض الجودة إلى مادة نقية عالية الجودة ضرورية لبطاريات السيارات الكهربائية، بالشراكة مع عملاق التعدين الصيني “ليجند ريسورسز آند تكنولوجي”.

وفي غضون عام من افتتاح المنشأة، حققت إيرادات بلغت مليار دولار، مع ارتفاع ترسبات الكروم 6، ووجود مراسلات داخلية حول مساهمة المصفاة الجديدة في تفاقم الأزمة، وفق ما جاء في تقرير الغارديان.

هاريتا تنجو مؤقتا

جاء تقرير “الغارديان” في لحظة حساسة بالنسبة لهاريتا، حيث كانت تستعد لإدراج أسهم إحدى شركاتها في بورصة إندونيسيا، وكان من المتوقع أن يجمع الطرح العام الأولي مئات الملايين من الدولارات من بنوك عالمية.

وقبيل أشهر من الطرح العام المزمع إجراؤه في أبريل/نيسان 2023، سجلت هاريتا قراءة للكروم 6 بلغت 173 جزءا في المليار في نبع كاواسي، وهو ما يزيد عن 3 أضعاف الحد القانوني لمياه الشرب، وفق مراسلات مسربة حصل عليها الصفحيون الاستقصائيون التابعون لمؤسسة “مكافحة الجريمة المنظمة والفساد”.

وقبل بضعة أيام من الطرح، عقدت هاريتا مؤتمرا صحفيا عند نبع كاواسي، ووقف مدير الشركة ورئيس قسم الصحة والسلامة والبيئة توني غولتم أمام مجموعة من الصحفيين، ورفع كوبا من الماء إلى شفتيه، ثم احتفظ به هناك فترة كافية لالتقاط الصور، ولا يعرف ما إذا كان فعلا قد شرب منه.

في المحصلة، لم تعرقل التسريبات أو التحقيقات جهود هاريتا في توسيع أعمالها، وجمعت نحو 660 مليون دولار في واحد من أكبر الاكتتابات في إندونيسيا خلال ذلك العام.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version