في العام 1984، استطاع عالم الوراثة البريطاني أليك جيفريز جون تطوير تقنية لتحديد البصمة الوراثية التي تستخدم الاختلافات في الشفرة الجينية للتعرف على الأفراد، وهي تقنية “دي إن إيه” (DNA) التي أصبحت لاحقا من أقوى الأدوات المستخدمة من قبل الأجهزة الأمنية لتحديد هوية الأشخاص من بقايا الحمض النووي الذي يتركونه وراءهم، سواء من اللعاب أو السائل المنوي أو الدماء أو الشعر.
ورغم استخدام تقنية البصمة الوراثية في مجالات مهمة وحساسة مثل الطب الشرعي الجنائي أو للتعرف على ضحايا الكوارث، فإن التطبيقات الحديثة تخطت ذلك إلى ما يعرف باسم “البصمة الوراثية البيئية” لعينات الحمض النووي، وهي تلك الآثار التي يتم جمعها من مجموعة متنوعة من العينات البيئية كالتربة ومياه البحر والثلج أو حتى الهواء.
ومع التطور الدائم في تقنيات استخلاص الحمض النووي البيئي، لاحظ العلماء أن الحمض النووي البشري منتشر في كل مكان يوجد فيه الإنسان؛ على الشاطئ، وفي المحيط، وعلى طول المجاري النهرية، وحتى في الهواء، فنحن نسعل ونبصق وننثر الحمض النووي الخاص بنا في كل هذه الأماكن وأكثر من ذلك بكثير، ولذلك يمكن العثور على علامات الحياة البشرية في كل مكان تقريبا، وهذا ما توصلت إليه دراسة حديثة نشرتها دورية “نيتشر إيكولوجي آند إيفولوشن” (Nature Ecology and Evolution).
آثارنا منتشرة في البيئة من حولنا
يذكر الباحثون أن مجال “الحمض النووي البيئي” (eDNA) يتقدم بسرعة، ومع ذلك فإن تطبيقاته لا تزال غير مستغلة بالقدر الكافي، وإن اعتماد تحليل الحمض النووي البيئي على نطاق واسع؛ سيؤدي إلى العديد من الفوائد في مراقبة مسببات الأمراض، ومراقبة التنوع البيولوجي، واكتشاف الأنواع المهددة بالانقراض، وعلم الوراثة السكانية.
وفي البيان الصحفي الذي نشرته “يوريك ألرت” (Eurek Alert)، يقول ديفيد دافي، أستاذ جينوم أمراض الحياة البرية في جامعة فلوريدا الأميركية الذي قاد المشروع، “فوجئنا بكمية الحمض النووي البشري التي وجدناها وجودة نوعيته؛ ففي معظم الحالات، تكافئ الجودة تقريبا ما إذا كنت قد أخذت عينة من شخص ما”.
ووجد الفريق الحمض النووي البشري عالي الجودة في المحيطات والأنهار المحيطة بالمختبر الذي أجريت فيه الأبحاث، كما وجدوه بالقرب من المدينة وبعيدا عن المستوطنات البشرية، وكذلك في رمال الشواطئ البعيدة، بل إن الباحثين سافروا إلى جزيرة نائية لم يزرها أي شخص من قبل، وكانت خالية من الحمض النووي البشري، كما هو متوقع، لكنهم تمكنوا من استعادة الحمض النووي من آثار أقدام المشاركين المتطوعين في الرمال وتمكنوا من إجراء تسلسل لأجزاء من الجينوم الخاص بهم.
كما نجح الفريق في استخدام الحمض النووي البيئي لدراسة السلاحف البحرية المهددة بالانقراض والسرطانات الفيروسية المعرضة لها، واستطاعوا استخراج الحمض النووي من مسارات السلاحف في الرمال، كما اختبر دافي هذه التقنية أيضا في وطنه أيرلندا على طول نهر يمر عبر المدينة، ووجد الحمض النووي البشري في كل مكان باستثناء مجرى الجبل بعيدا عن المدينة، كما جمع العلماء عينات من هواء الغرفة من مستشفى بيطري، واستعادوا الحمض النووي للموظفين والحيوانات والفيروسات الحيوانية الشائعة.
محاذير أخلاقية
وبالنظر إلى سهولة الحصول على العينات والكشف من خلالها عن هوية الأفراد بدقة، يشير الباحثون إلى ضرورة وضع ضوابط أخلاقية صارمة لهذا النوع من الأبحاث، والتعامل مع هذا المستوى من المعلومات الشخصية بحساسية شديدة.
يقول دافي، “عندما نحقق تقدما علميا، فهناك دائما أشياء مفيدة تقدمها التكنولوجيا. الأمر لا يختلف هنا، هذه قضايا نحاول عرضها مبكرا حتى يتوفر لواضعي السياسات الوقت لتطوير اللوائح”.
ومن الممكن أن تفيد عينات الحمض النووي البيئي في مجالات الطب والعلوم البيئية وعلم الآثار والطب الشرعي الجنائي؛ فعلى سبيل المثال، يمكن للباحثين تتبع طفرات السرطان من مياه الصرف الصحي أو تحديد المواقع الأثرية غير المكتشفة عن طريق التحقق من الحمض النووي البشري المخفي، كما يمكنهم تحديد المشتبه بهم من الحمض النووي السابح في هواء مسرح الجريمة.