بين طيات جبال زاغروس، حيث تتلاقى قوى الطبيعة في صمت مطبق، تكمن قصة جيولوجية مذهلة تكشف عن رقصة مستمرة بين الصفائح التكتونية، حددت ملامح الأرض وشكلت تضاريسها، فعلى مدار ملايين السنين، كانت هذه الجبال الواقعة بين العراق وإيران مسرحا لاصطدامات بين الصفيحتين العربية والأوراسية، أدت بدورها إلى تغييرات هائلة في القشرة الأرضية.

وتكشف دراسة جديدة لباحثين من كلية الأرض والغلاف الجوي والبيئة بجامعة موناش الأسترالية، نشرتها دورية “إيرث آند بلانيتري ساينس ليترز”، عن تأثير هذه “الرقصة” الجيولوجية، التي لم تقتصر على تشكيل الجبال، بل كان لها دور محوري في تغيير خريطة الأرض، فمن خلال مقارنة تأثير هذه الاصطدامات بما حدث في جبال الألب والهملايا، أوضحت الدراسة حجم فقدان القشرة الأرضية الذي شهدته منطقة زاغروس، مما يعكس تأثير القوى الجبارة التي عملت على تشكيل هذه الجبال في تكوين الأرض بشكل عام.

فصل حي من تاريخ الأرض

ويقول الأستاذ بالمعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيفية بمصر الدكتور شريف الهادي للجزيرة نت: “هذه الدراسة تروي لنا فصلا حيا من تاريخ الأرض، حيث الجبال ليست مجرد صخور ثابتة، بل هي شهادة حية على حركة تكتونية كبرى لا تزال مستمرة إلى اليوم”.

ويشرح الهادي تفاصيل تلك الحركة: “تخيل وجود لوحين من البلاستيك، كل منهما يمثل قشرة الأرض، فإذا تم الدفع بهذين اللوحين تجاه بعضهما البعض، فستحدث عملية اصطدام، وفي البداية، قد لا تلاحظ أي تغيير كبير نتيجة لذلك، لكن مع مرور الوقت، سيبدأ أحد اللوحين بالانحناء أو الارتفاع، بينما قد يحدث للآخر تدمير جزئي أو انزياح إلى أسفل، وهذه هي نفس العملية التي تحدث عندما تصطدم الصفائح التكتونية ببعضها البعض على سطح الأرض”.

ويضيف: “في حالة جبال زاغروس، حدث اصطدام بين الصفيحتين العربية والأوراسية، وهو ما يشبه تماما اصطدام لوحي البلاستيك، حيث تتقدم الصفيحة العربية باتجاه الشمال الشرقي بسرعة تقارب بضعة سنتيمترات في السنة، وتصطدم بالصفيحة الأوراسية التي تتحرك باتجاه الجنوب الغربي، ونتيجة لهذا التصادم، تتعرض الصخور الموجودة في منطقة الاصطدام لضغوط هائلة، مما يؤدي إلى تراكم هذه الضغوط ورفع الطبقات الصخرية فوق بعضها البعض، وبالتالي تكوين الجبال”.

فقدان القشرة.. الهيملايا في المقدمة

وفي نفس الوقت، فإن التصادم لم يقتصر على رفع الأرض وخلق الجبال فقط، بل أدى أيضا إلى فقدان جزء من القشرة الأرضية في هذه المناطق، ذلك لأن جزءا من القشرة الأرضية قد يغرق في أعمق المناطق، وهذا يشبه انزلاق جزء من البلاستيك تحت اللوح الآخر.

ويقول الهادي: “في حالة جبال زاغروس، يُعتقد أن جزءا من القشرة قد اختفى أو تعرض للانضغاط الشديد في أعماق الأرض، مما أدى إلى فقدان القشرة في تلك المنطقة”.

وقدرت الدراسة أن التصادم بين الصفيحتين العربية والأوراسية الذي تسبب في ظهور جبال زاغروس، أدى إلى فقدان جزء كبير من القشرة القارية، إذ تم تقديره بمعدل يتراوح بين 20 و40%، مما يفسر المعدلات الأسرع في ارتفاع هذه الجبال مقارنة بجبال الألب، لكنها لا تصل إلى نفس التأثيرات التكتونية العنيفة التي شهدتها جبال الهيمالايا.

ويعتبر فقدان القشرة إلى الوشاح الأرضي  في الهيملايا هو الأعلى بين السلاسل الثلاثة، وهذا الفقدان ناجم عن التصادم العنيف بين الصفيحة الهندية والصفيحة الآسيوية، الذي بدأ منذ حوالي 59 مليون سنة، حيث أدى هذا الاصطدام إلى سماكة القشرة القارية في المنطقة، وتسببت القوى الهائلة في انفصال جزء كبير من القشرة السفلية الكثيفة إلى الوشاح، وتظهر الحسابات أن القشرة المفقودة في الهيمالايا تمثل حوالي 40% من إجمالي القشرة القارية الأصلية، مما ساعد في رفع الهضبة بسرعة كبيرة وأدى إلى زيادة الارتفاعات في المنطقة، وهذا الفقدان الكبير للقشرة ساهم في تشكل التضاريس المرتفعة وارتفاع مستوى الهيمالايا.

وفي المقابل، شهدت جبال الألب فقدانا أقل للقشرة الأرضية مقارنة بالهيمالايا، حيث كان التصادم بين الصفيحتين الأوروبية والأفريقية الذي شكل الجبال، وبدأ قبل حوالي 35 مليون سنة، أقل عنفا، وبالتالي كانت العملية التكتونية في الألب أكثر بطئا.

وتشير حسابات فقدان القشرة في جبال الألب إلى أن الجزء المفقود لا يتعدى 15% إلى 50% من إجمالي القشرة القارية، وهذه النسبة الأقل تعكس أن التصادم لم يكن بنفس القوة التي كانت في الهيمالايا، وهذا جعل عملية رفع الجبال والتغيير في التضاريس أقل حدة.

ومن جهة أخرى، شهدت سلسلة جبال زاغروس حالة مشابهة للهيكل التكتوني للهيمالايا من حيث أن التصادم بين الصفيحتين العربية والأوراسية الذي بدأ قبل 35 مليون عام، أدى إلى فقدان جزء كبير من القشرة القارية، ولكن بحجم أقل قليلا من الهيمالايا.

نشاط تكتوني مستمر

ولم تتطرق الدراسة لتأثير هذه التصادمات على حدوث الزلازل، لكن الهادي، يشير إلى أن التأثيرات الجيولوجية الناتجة عن تصادم الصفائح التكتونية لا تزال واضحة في المناطق الثلاث (الهيمالايا، الألب، زاغروس) حتى اليوم.

ويقول الدكتور الهادي: “في منطقة زاغروس، التي تأثرت بتصادم بين الصفيحتين العربية والأوراسية ، لا يزال هناك تأثير تكتوني قوي يتمثل في استمرار رفع السلسلة الجبلية، وهذا النشاط التكتوني مستمر في تكوين الجبال وارتفاعها، مما يساهم في وجود هزات أرضية متفرقة، ونفس الأمر في الهيمالايا بوتيرة أكبر تجعلها من أكثر المناطق نشاطا زلزاليا في العالم، بينما يبدو الوضع أقل حدة في جبال الألب”.

ويضيف أنه “على الرغم من أن الدراسة لم تتطرق لهذا الجانب، إلا أن حديثها عن استمرار النشاط التكتوني، تدفعنا إلى الإشارة للتحديات المتعلقة بالنشاط الزلزالي المتزايد في المناطق الثلاث، والذي يمثل خطرا على المجتمعات المحلية والبنية التحتية، ويدفعنا للتأكيد على أهمية مواصلة الأبحاث لفهم أفضل للعمليات التكتونية وتأثيراتها المحتملة، بما قد يسهم في تطوير إستراتيجيات للتكيف مع المخاطر الطبيعية وتخفيف آثارها على السكان المحليين”.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الخليج مباشر. جميع حقوق النشر محفوظة. تصميم سواح سولوشنز.