تونس- قبل أيام كتب أحد المعارضين أنه استُدعي إلى برنامج سياسي بإحدى الإذاعات، لكنه فوجئ بحذف الحلقة ما أثار تنديد نقابة الصحفيين التونسيين، ولم تمض سوى أيام حتى أُغلق البرنامج نهائيا، ما أعاد للأذهان صورة “العصفور في القفص” الذي تعهد الرئيس قيس سعيد بأنه “لن يعود إليه”.

المعارض، الوزير الأسبق للتشغيل، فوزي عبد الرحمان، الذي تطرق في الحلقة الملغاة إلى الوضع الاقتصادي والسياسي المتأزم، في ظل صدور أحكام ابتدائية قاسية على عشرات المعارضين، في ما يعرف بقضية التآمر على أمن الدولة أو غيرها من القضايا.

في محاولة لامتصاص الغضب، عزت الإذاعة الخاصة جوهرة أف أم في البداية إلغاء الحلقة إلى عطب تقني ناتج عن انقطاعات الكهرباء في ردها على استفسار نقابة الصحفيين، قبل أن تعلن غلق برنامج “بوليتيكا” نهائيا تحت الضغط المسلط من السلطة.

محاصرة المنابر

وضع هذا القرار حدا لمسيرة دامت 11 عاما لأحد البرامج السياسية القليلة التي دأبت على استضافة أصوات معارضة للخوض في القضايا السياسية في البلاد، ما اعتُبر إشارة إضافية على تراجع الإعلام في تونس، الذي يعيش منذ 4 سنوات على وقع التضييق.

وكانت نقابة الصحفيين لفتت إلى تراجع غير مسبوق في حرية التعبير منذ إعلان الرئيس سعيد عن التدابير الاستثنائية في 25 يوليو/تموز 2021، والتي حكم فيها البلاد “بقبضة قوية”، معتبرة أن هذا المسار أفرغ حرية التعبير من مضمونها، وقاد إلى محاصرة الأصوات الحرة.

ومنذ ذلك الوقت أُغلقت تدريجيا كل المنابر التي كانت تبث عبر قنوات وإذاعات خاصة، بعدما تطرّقت إلى ملفات سياسية حساسة كقضايا المحاكمات وانتهاكات حقوق الإنسان وأوضاع المهاجرين من دول جنوب الصحراء، إلى جانب تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

وإلى جانب ذلك، يتهم مراقبون وسائل الإعلام العمومي (قنوات وإذاعات وصحفا ووكالة أنباء) بالتحول إلى منصة دعائية للرئيس، خاصة بعد تعيين مسؤوليها بإشراف مباشر من السلطة، في ظل تهميش منهجي للأصوات المخالفة وغياب التعددية في التغطية والطرح.

كما أضعفت الهشاشة المالية استقلالية الإعلام الخاص، فاختارت مؤسسات كبرى التخلي عن البرامج السياسية في برامجها الرئيسية، في وقت لجأ فيه عدد من الصحفيين إلى المحتوى الثقافي والفني تفاديا للملاحقة أو ضغوط الرقابة الذاتية المتصاعدة حاليا.

ملاحقة الصحفيين

ويقول الصحفي زياد الهاني، إن السلطة ضاقت ذرعا بالمنابر الإعلامية الحرة، بعد فشلها في إدارة شؤون البلاد، فلجأت إلى خنق الأصوات المستقلة بترسانة من التشريعات الزجرية على رأسها المرسوم 54، بل وامتدت إلى توظيف قانون الإرهاب لملاحقة الصحفيين وتكميم الأفواه.

ويستحضر الهاني تجربة عاشها في إذاعة خاصة، حيث كان يعمل ضمن فريق يضم المحامية والإعلامية سنية الدهماني، والصحفي مراد الزغيدي، والمقدم برهان بسيس، وجميعهم اليوم في السجن على خلفية نشاطهم الصحفي وتطرقهم إلى سياسات الرئيس.

ويؤكد للجزيرة نت، أنه اضطر للانسحاب من البرنامج بعد ضغوط مورست على مالك الإذاعة، وصلت حد تهديدها من السلطة بقطع البث نهائيا.

كما يروي تجربته في قناة “قرطاج+” التي لم يُبث منها سوى أربع حلقات، قبل أن يوقف البرنامج بعد حلقة استضاف فيها المحامية دليلة مصدق، قال إنها قدّمت خلالها وثائق تُفند الرواية الرسمية بشأن ما يُعرف بقضية التآمر على أمن الدولة، وهو ما اعتبره الهاني سببا رئيسيا في إسكات البرنامج.

ويشير الهاني إلى أنه ملاحق حاليا في أربع قضايا، إحداها أمام الدائرة الجنائية المختصة في قضايا الإرهاب، على خلفية عمله الصحفي، وهو في انتظار تعيين جلسة لمحاكمته. علما وأنه تم الحكم عليه سابقا 6 أشهر سجنا مع وقف التنفيذ.

ويقول إن السلطة لا تؤمن إلا بصوتها الأوحد، وإن الرئيس يتجنب الإعلام كليا، مكتفيا بصفحة رسمية يتيمة تنشر أنشطته في ساعات متأخرة من الليل هربا من المساءلة.

غلق ممنهج

من جهته، يؤكد رياض الشعيبي الناشط المعارض والقيادي بحركة النهضة، أن السلطة انتهجت منذ 25 يوليو/تموز 2021 سياسة ممنهجة لغلق كل الفضاءات الإعلامية الحرة، مشيرا إلى أن قرار إغلاق برنامج “بوليتيكا” مثّل تتويجا لمخطط خنق حرية الإعلام في تونس.

ويعتبر أن المشروع السياسي الحالي “لا يؤمن لا بالحرية ولا بالديمقراطية”، ويسعى إلى إسكات كل صوت مخالف، وهو ما يفسر الحملة على المنابر التي تفتح المجال للنقاش السياسي أو تعطي فرصة للمعارضة للتعبير عن آرائها.

ويضيف للجزيرة نت، أن ما كان يُعتبر في النظام الديكتاتوري السابق قبل 2011 هامشا مقبولا من حرية التعبير، مثل الصحف المعارضة أو بعض البرامج الجريئة، أُجهض بالكامل اليوم، إذ أصبحت كل المساحات الإعلامية المستقلة إما مغلقة أو ممنوعة أو محاصرة.

كما ندد الشعيبي بما اعتبره توظيف الإعلام العمومي كبوق للدعاية للسلطة في اتجاه واحد، قائلا إن “السلطة الحالية لا تعود إلى الوراء فقط، بل تحاول جرّ البلاد إلى ما قبل نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي”، حيث لا صوت يُسمع إلا ما يردده النظام، وسط تغييب تام لأي مساءلة أو تنوع في الآراء.

في المقابل، يؤكد الرئيس قيس سعيد في أكثر من مناسبة أن حرية التعبير مكفولة في تونس ومضمّنة في دستور 2022، مشددا على أن “العصفور لن يعود إلى القفص”، وهو التعبير الذي استلهمه من لافتة رفعها أحد الشبان بعد الثورة خلال احتجاجات للمطالبة بالحرية.

ويعتبر سعيد، وفق تصريحاته الرسمية، أن حرية الصحافة مصونة، لكن لا يمكن أن تُتخذ مطية لارتكاب جرائم تمس من كرامة الأشخاص أو تهتك أعراضهم أو تروّج معطيات زائفة دون دليل. ويؤكد أن القانون يطبق على الجميع دون استثناء، وأن من يمثل أمام القضاء لا يُحاكم بسبب آرائه.

كما يذهب أنصاره إلى أن عددا من القضايا المثارة بحق صحفيين تتعلق بجوانب مالية أو جنائية أو بمحتويات اعتبرت سبا وثلبا وتشويها مقصودا، وهو ما يُعد في نظرهم تجاوزا لحدود حرية التعبير. ويشددون على أن السلطة القضائية وحدها المخوّلة بالنظر في هذه القضايا، بعيدا عن أي تدخل سياسي أو ضغط إعلامي.

شاركها.
اترك تعليقاً