غزة- في جريمة منظمة، تتخلص إسرائيل من حبل النجاة الأخير لنحو 20 ألف فلسطيني محاصر في المحافظة الشمالية لقطاع غزة ، باقتحامها مستشفى كمال عدوان وإضرام النيران فيه، حيث التهمت أقسامه الحيوية من العمليات والجراحة إلى الصيانة والمختبرات، وبقيت مشتعلة وسط غياب تام لكل وسائل إخماد الحريق لإنقاذ المباني المتبقية.

ومع أن هذا الاقتحام الثالث للمستشفى خلال العدوان على غزة، فإن هذا الإحراق يعد الأول له، في مشهد يعيد لذاكرة الغزيين الصورة السوداء لمجمع الشفاء الطبي، الذي أحرقه جيش الاحتلال قبل 9 شهور في 18 مارس/آذار 2024.

تفاصيل الجريمة

قال مصدر خاص للجزيرة نت إن أحزمة نارية وقصفا مدفعيا وجويا بدأ في حدود الساعة الثانية فجرا على محيط المستشفى، قبل أن تتقدم الآليات الإسرائيلية وتحاصره بشكل كامل، ووضّح قائلا “حين وصلت الآليات قام الضابط بالنداء على مدير المستشفى الدكتور حسام أبو صفية، وطالبوه بإخلاء المستشفى إلا من الجرحى الذين لا يستطيعون السير”، وتبع هذه الأوامر تهديد مباشر لأبو صفية بالاعتقال “لتحريضه على إسرائيل” حسب وصفهم.

وكان المستشفى يحتضن أكثر من 80 مريضًا و350 من الكوادر الطبية والمرافقين، وأكدت مصادر خاصة للجزيرة نت أن جنود الاحتلال أخلوا عددا من الجرحى إلى المستشفى الإندونيسي، الذي هو خارج الخدمة بالأساس، كما قاموا بقطع الأكسجين عن عدد كبير منهم، مما عرّض حياتهم لخطر شديد.

تقول أمل للجزيرة نت، وهي إحدى شهود العيان الذين وصلوا إلى المستشفى المعمداني بغزة، “أمرنا جنود الاحتلال بالتوجه إلى منطقة مقابلة لمدرسة الفاخورة، ثم فصلوا الرجال بعد تعريتهم من ملابسهم، وأجبروهم على الجلوس في حفرتين كبيرتين استعدادا للتحقيق معهم”.

وأضافت “أما نحن فأمرونا بخلع الحجاب فرفضنا، ثم أمرونا برفع ملابسنا، وانهالوا علينا بالشتائم والضرب قبل إجبارنا على النزوح إلى غرب مدينة غزة”، تركت أمل كل حقائبها بعد سيرها مسافة طويلة في الطرق الوعرة المدمرة من بين الدبابات، وتقول “لا يمكن أن أتخطى مشاهد بكاء الأطفال والمرضى وتوسلهم للجنود بطلب الماء دون جدوى”.

وحتى لحظة إعداد التقرير، لم يتجاوز عدد الواصلين من “كمال عدوان” ومحيطه أصابع اليدين، في جريمة ترتكب في الخفاء، بعيدا عن أعين العالم، وفي ظل شح المعلومات وانقطاع الاتصال مع الذين كانوا في المستشفى والمناطق المحيطة به، واقتياد الكثيرين منهم لمصير مجهول، وهو ما يمثل حربا على آخر مرافق الحياة في شمال القطاع، لإجبار من فيه على النزوح وجعله منطقة لا تصلح للعيش الآدمي، وقتل كل ما يعين الصامدين هناك على البقاء.

جغرافيا جديدة

ومنذ الخامس من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، شرعت القوات الإسرائيلية بعملية برية واسعة النطاق للمرة الثالثة في جباليا، ثم امتدت تدريجيًا لتشمل مدينتي بيت لاهيا وبيت حانون، وأطبقت حصارًا كاملا على كل محافظة شمال قطاع غزة.

و رصدت الجزيرة نت شهادات من ناجين نزحوا مؤخرا إلى مدينة غزة وهم يصفون أحوال الشمال المحاصر وأهوال ما عاشوه.

يحاول الصحفي معاذ الكحلوت استيعاب تفاصيل الجغرافيا الجديدة خلال رحلة نزوحه من شمال القطاع، بعد صمود دام 80 يوما في وجه الموت والدمار، فالتبست على ابن المخيم معالم الطريق، يشيح ببصره يمنة ويسرة، عبثا يحاول استرجاع ملامح الأحياء والشوارع التي عاش فيها سنين طويلة.

يقول معاذ بحسرة “وقفت على مدخل الحي الذي احتضنني لعقود، لكنني لم أتعرف على أي شيء من آثار 400 منزل، ولم أميز حجرا واحدا منها”، ويضيف “كان كل شيء مغطى بالرماد، لا ألوان، لا حياة، وتختلط رائحة البارود مع عبق الموت الذي يشيع في الأجواء، بينما تملأ الأرض جثث متناثرة في مشهد يعجز عنه الوصف”.

وبينما ينكّس معاذ رأسه لحفظ ما تبقى من ذاكرته التي شوهها الاحتلال، باغته علم إسرائيل مرفرفا على سارية عند مدخل الحاجز، يصف تلك اللحظة قائلا “اجتاحتني مشاعر الانكسار والقهر والغضب حتى وصلت إلى نخاع روحي”.

كان دافع معاذ للبقاء في جباليا هو “نقل الحقيقة إلى العالم” كما يقول، حيث تحدى الخوف والتهديدات، لكنه اضطر في النهاية إلى المغادرة، ويقول “ثمن بقائي كان أعصابي وصحتي، وكان سيكلفني حياتي وحياة عائلتي إن بقيت قليلا”.

كانت الأيام الأصعب في حياته هي تلك التي قضاها محاولاً تأمين الماء والطعام لعائلته، وسط خوف لا ينتهي، ودمار لم يبتلع البيوت فقط، بل طال الشوارع والبنى التحتية وأنابيب الصرف الصحي وأعمدة الكهرباء، وغير ملامح المحال التجارية، والمرافق، والمستشفيات، وحتى المدارس، “لم يعد هناك مكان يمكن للإنسان أن يستظل به” حسب وصفه.

الخروج من الجنة

من خيمتها الصغيرة في حي التفاح، حيث نزحت من بيت لاهيا شمالي القطاع، تتحدث منار الكيلاني للجزيرة نت وهي تستحضر ذكرياتها عن منزلها الذي تركته، وتقول “لا أستطيع أن أصدق أنني لن أجلس مجددًا في حديقة بيتي، التي كنت أراها جنة أستريح بها بعد يوم طويل من العمل في غزة، الآن أصبح كل شيء ذكرى”، وعند سؤالها عن سبب رفضها للنزوح، تكون إجابة منار الدائمة “هل يطيق أحدكم الخروج من الجنة؟”.

لكن منار تصف تجربة قاسية عاشتها لمدة 66 يومًا في بيت لاهيا، وتستذكر صباح النزوح بتفاصيله المؤلمة، تقول “كنا نريد الموت في بيوتنا، لكن طائرات كوادكابتر باغتتنا بنداء عاجل عبر مكبرات الصوت. طلبوا منا إخلاء مدارس بيت لاهيا خلال خمس دقائق فقط”.

تصف تلك اللحظات العصيبة قائلة “تسمّرنا في أماكننا، ينظر بعضنا إلى بعض في صمت رهيب، كنت ألتفت إلى إخوتي وأتساءل: هل نتركهم هنا وحدهم أم نخاطر بالمرور عبر الحاجز الإسرائيلي؟ لكن الحيرة لم تدم طويلًا؛ فالقذائف بدأت تتساقط حولنا، لتدفعنا للفرار في مشهد لا يمكن نسيانه”.

“وعند الحاجز الإسرائيلي، كان الألم أكبر من الوصف”، تقول منار “أقسى ما رأيته كان، نظرات الأمهات لأولادهن الشباب وهم يجردونهم من ملابسهم عند التفتيش، ونظرات الشباب لأطفالهم وهم يحاولون طمأنتهم رغم الخوف”، وتضيف أن أحد الجنود كان يصرخ بجنون: “أنا مجنون!”، ويطلق النار عشوائيًا، “بينما كنا نحاول حماية رؤوس أطفالنا وأجسادنا المرتجفة”.

لم تكن تلك المحنة آخر ما واجهته منار، فبعد أيام قليلة من النزوح، وصلها خبر استشهاد خطيبها، وتقول بصوت يفيض بالحزن “كان يحاول إنقاذ العالقين تحت الأنقاض في عزبة بيت حانون عندما استشهد، لم أستطع تصديق أنني فقدته، لكنه رحل وهو يحاول إنقاذ الآخرين”.

ليست عملية برية

وكانت قوات الجيش الإسرائيلي حيدت عمل الدفاع المدني وخدمة الإسعاف والطوارئ بصورة كاملة عن العمل، حين استهدفت نقطة عملهم الوحيدة في منطقة الفاخورة، واعتقلت 5 من العاملين فيه، وأجبرت البقية على النزوح.

وفي مقابلة مع الناطق باسم الدفاع المدني محمود بصل، وصف ما يجري في شمال المنطقة بأنه “تطهير عرقي وتجفيف للوجود الفلسطيني”، رافضًا تسميته بـ”عملية برية”، وأشار بصل إلى الوضع المأساوي الذي يعاني منه السكان، موضحًا أن التعامل مع جثامين الشهداء بات شبه مستحيل في ظل الظروف الراهنة.

وقال “لا أحد يستطيع دفن الشهداء، فتظل جثامينهم ملقاة في الشوارع، عرضة لنهش الكلاب الضالة”، مضيفًا بمرارة “حتى الكلاب أصيبت بالتخمة من كثرة الجثامين التي تغذت عليها”.

وأضاف بصل أن من تبقى من السكان يُواجه خطرًا مميتًا، مؤكدًا “كل من يتحرك يُقتل ويتم استئصاله”، ولفت إلى أن هناك نحو 20 ألف مواطن فقط ما يزالون في شمال المنطقة، محذرًا من أنه “إذا لم يتحرك العالم لإنقاذهم، فستزهق أرواحهم وسيواجهون المصير ذاته”.

أما المكتب الإعلامي الحكومي، فكشف في تصريح خاص للجزيرة نت عن حصيلة 80 يومًا من العدوان الممنهج على محافظة شمال قطاع غزة، مشيرًا إلى أن عدد الضحايا تجاوز 4800 شهيد ومفقود، إضافة إلى أكثر من 12 ألفا و500 مصاب، وما يزيد على 1900 معتقل.

وفي هذا السياق، صرّح إسماعيل الثوابتة، مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي، بأن الاحتلال الإسرائيلي يواصل ارتكاب “أبشع جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي” بحق المدنيين العزّل، مُستهدفًا كل مقومات الحياة، وأوضح أن الهجمات طالت البشر والحجر على حد سواء، مع تدمير شامل للبنية التحتية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس والمنازل والمرافق الحيوية.

وأضاف الثوابتة “ما يحدث هو وصمة عار على جبين المجتمع الدولي، الذي يقف عاجزًا عن اتخاذ خطوات حقيقية وملموسة لوقف هذه المجازر المستمرة” مؤكدا أن الاحتلال لن ينجح في تحقيق أهدافه من هذه الحرب، وعلى رأسها مخطط التهجير القسري ضد الشعب الفلسطيني، وأن “الاحتلال لن يفلت من العقاب على جرائمه المستمرة ضد الإنسانية”.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الخليج مباشر. جميع حقوق النشر محفوظة. تصميم سواح سولوشنز.