أنقرة- شهدت العاصمة التركية أنقرة، أمس الخميس، إحياء الذكرى 24 لتأسيس حزب العدالة والتنمية الحاكم، بحضور رئيس الجمهورية ورئيس الحزب رجب طيب أردوغان وكبار قياداته.
وتحولت الفعالية إلى منصة سياسية مزدوجة، إذ استعرض أردوغان خلالها مسيرة الحزب الممتدة لأكثر من عقدين، مؤكدا أنه بات “أقوى من أي وقت مضى”.
وفي الوقت نفسه رحّب بانضمام 9 رؤساء بلديات من أحزاب معارضة –أبرزهم رئيسة بلدية آيدِن الكبرى أوزلام تشرشي أوغلو– إلى صفوف العدالة والتنمية، في خطوة وصفها الرئيس بأنها “إضافة نوعية لعائلة الحزب” ورسالة على اتساع مظلته لكل من يحمل “عشق الوطن وخدمة الشعب”.
ترحيب ورسائل
واعتلت تشرشي أوغلو وهي أحد أبرز وجوه المعارضة، منصة الاحتفال لتأسيس حزب العدالة والتنمية في أنقرة، لتعلن رسميا انتقالها إلى صفوف الحزب الحاكم.
وبكلمات مقتضبة وحاسمة، تعهّدت بمواصلة خدمة مدينتها بشكل أفضل تحت مظلة “العدالة والتنمية” وبرعاية الرئيس أردوغان، مؤكدة أن ضميرها نظيف ورأسها مرفوع في مواجهة أية مزاعم أو اتهامات.
وحرصت على تجنُّب كشف تفاصيل الخلافات التي دفعتها لمغادرة حزبها السابق، مكتفية بالتلميح لاستعدادها لعرضها “واحدة واحدة” إذا اقتضى الأمر، في حين شددت على أن همها الأول سيظل خدمة الوطن وآيدِن، مع تطلعها لإطلاق مشروعات تنموية، بينها حملة للإعمار المقاوم للزلازل في منطقة تُعد من أخطر البؤر الزلزالية في البلاد.
ولاقت خطوة انضمام تشرشي أوغلو، إلى جانب 8 رؤساء بلديات آخرين من أحزاب معارضة، ترحيبا من أردوغان الذي استثمر المناسبة لتوجيه رسائل سياسية حادة، حيث خصَّص جزءا من خطابه للرد على موجة الانتقادات التي انهالت على “المنضمين الجدد” منذ تسرب أنباء انتقالهم، متهما بعض قيادات المعارضة باستخدام “أسلوب فظ ومنحط” في الهجوم عليهم.
وبلهجة قاطعة قال “أقول لهم: هيا ابتعدوا من هنا”، مضيفا “يجلسون على كومة من القاذورات ويحاولون قذف الآخرين بها. من ليس لديه حياء ولا أدب، لن نستسلم له أبدا”.
وفي تلميح مباشر إلى زعيم المعارضة ورئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزيل، وصفه أردوغان بأنه “حالة تستدعي اهتمام علم النفس”، مضيفا بسخرية “حضرة البيك يبدو منزعا، حسنا، فليزدد انزعاجا!”.
إهانة الرئيس
وانفجرت مواجهة علنية بين الرئيس أردوغان وأوزغور أوزيل، بعدما أطلق الأخير، أول أمس الأربعاء، تصريحات حادة وُصفت بأنها الأكثر إساءة لرئيس الجمهورية منذ سنوات.
وفجّر أوزيل الموقف عقب تأكيده انتقال رئيسة بلدية آيدِن، أوزلام تشرشي أوغلو، من حزبه إلى حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، مستخدما بخطابه لفظا عاميا تركيا (لان) ذي الدلالة الازدرائية، قبل أن يتهم أردوغان علنا بابتزاز تشرشي أوغلو عبر التلويح بقضية فساد لإجبارها على الانضمام للحزب الحاكم.
ولم تمضِ ساعات حتى جاء الرد الحكومي على لسان وزير العدل يلماز تونج، الذي أعلن فتح تحقيق رسمي بحق أوزيل بتهمة “إهانة رئيس الجمهورية”، واصفا تصريحاته بأنها “هجوم صريح على الإرادة الوطنية” وخروج فاضح عن حدود الأدب السياسي.
وأكد تونج أن النيابة العامة في أنقرة باشرت فورا الإجراءات القضائية، مشددا على أن الشعب التركي “لن يسمح بسياسة التشويه والافتراء”.
ومع اتساع دائرة الجدل، انهالت إدانات من قيادات “العدالة والتنمية” ومسؤولين حكوميين، وُصفت فيها تصريحات أوزيل بأنها “وقحة وغير لائقة”، في حين رأى آخرون أنها تعكس “ارتباكا” بعد سلسلة الانشقاقات داخل حزبه.
ومع دخول المسار القضائي حيز التنفيذ، يواجه أوزيل استدعاء مرتقبا للإدلاء بإفادته بقضية قد تُعرِّضه لعقوبة السجن، وفق القوانين التركية التي تُجرِّم إهانة رئيس الدولة.

“هدية خاصة”
في أوج التوتر السياسي، صعَّد أوزغور أوزيل تحدّيه لأردوغان، متوعدا عشية ذكرى تأسيس حزب العدالة والتنمية بكشف ما سماه “هدية خاصة” للحزب الحاكم.
وفي مؤتمر صحفي، عقده ظهر أمس الخميس في أنقرة، عرض أوزيل ما قال إنها وثائق وأدلة تثبت وجود شبكة داخل أجهزة الأمن والقضاء تدبر “انقلابا قضائيا” يستهدف البلديات المعارضة، وعلى رأسها بلدية إسطنبول الكبرى.
وأوضح أن ما وصفه بالمخطط بدأ في 19 مارس/آذار الماضي، بتعيين شخصيات موالية للسلطة في مواقع قضائية حسَّاسة قبل الانتخابات المحلية، بهدف فبركة اتهامات بحق رؤساء بلديات معارضين لإقصائهم.
وكشف عن “بورصة ابتزاز” – حسب تعبيره – تورَّط فيها محامون ومسؤولون عبر الضغط على موظفين للإدلاء بشهادات ملفقة، مشيرا بالاسم إلى محامٍ اعتقل لاحقا أثناء محاولة الهروب وحصل رغم ذلك على معاملة خاصة.
وأطلق أوزيل على هذه الشبكة اسم “عصابة توروس”، في إشارة رمزية لأساليب الدولة العميقة في التسعينيات، واتهمها بالتلاعب بالتحقيقات وابتزاز رؤساء البلديات، ملمحا إلى أن رئيسة بلدية آيدِن المنضمة حديثا للحزب الحاكم كانت من بين المستهدفين.
هجوم غير مبرر
ويرى المحلل السياسي علي أسمر، أن التراشق اللفظي بين الساسة في تركيا أمر مألوف بتاريخ الحياة السياسية، غير أن زعيم المعارضة أوزغور أوزيل تجاوز -برأيه- الحدود المعتادة برفع حدة خطابه إلى مستويات غير مسبوقة وبأسلوب يفتقر للحسابات الدقيقة.
ويشير أسمر في حديثه للجزيرة نت، إلى أن أوزيل يهاجم جميع الشخصيات، من الرئيس أردوغان إلى وزير الخارجية هاكان فيدان، الذي يُعرف بإنجازاته بإعادة هيكلة جهاز استخبارات قوي وفعال، لافتا إلى أن فيدان لم يتعرض من قبل لهجوم شخصي بهذه الحدة من أي سياسي تركي.
وبرأي أسمر، فإن أوزيل دخل بذلك في منطقة “المحظور” سياسيا، إذ يكتفي بالكلام دون تقديم بدائل أو خطوات عملية، ومن يكثر الكلام -كما يقول- تتآكل مصداقيته مع مرور الوقت.
ويضيف أن المواطنين الأتراك، حتى وإن وجدوا بعض نقاط الاتفاق معه، يُدركون أنه ليس مؤهلا لتحمُّل مسؤولية الدولة والشعب، معتبرا أن من يفشل في قيادة المعارضة لن ينجح بإدارة الحكم.

من جانبه، يرى المحلل السياسي مراد تورال أن اتهام أوزغور أوزيل للحكومة وأجهزة القضاء بتدبير ما سماه “انقلابا قضائيا” ضد البلديات المعارضة يعكس، من الناحية السياسية، محاولة لتأطير المواجهة مع السلطة على أنها صراع مع مؤسسات مسيَّسة لا مجرد تنافس انتخابي، بهدف تعبئة أنصار المعارضة داخليا وإيصال رسائل للخارج حول تراجع مبدأ الفصل بين السلطات.
ويقول تورال للجزيرة نت إن هذا الخطاب يضع المؤسسات القضائية بموقف حرج، إذ قد يضعف ثقة جزء من الرأي العام في حيادها ويعزز الانقسام الداخلي، كما يمنح الخارج مادة لتعزيز صورة سلبية عن استقلال القضاء التركي، بما قد ينعكس على العلاقات الدولية والاقتصاد.
غير أن تورال يُحذِّر من أن غياب الأدلة القاطعة قد يُحوِّل هذا الخطاب إلى عبء على أوزيل نفسه، إذ يمكن للحكومة استثماره لتصويره كسياسي يسيء لمؤسسات الدولة، ولتعزيز التفاف مؤيديها حولها باعتبارها حامية لهيبة القضاء وسيادة القانون.