تشكل المواجهة الجارية بين إسرائيل وإيران نقطة تحول إستراتيجية في سياق الصراع الإقليمي حول البرنامج النووي الإيراني، ولن تقتصر آثار المواجهة على إيران وإسرائيل وحدهما، بل تمتد تداعياتها لتطال البنية الأمنية والسياسية في الشرق الأوسط بأسره.

جاءت المواجهة في توقيت بالغ الحساسية وسط انسداد مسارات التفاوض النووي بين طهران وواشنطن، وتزايد شعور إسرائيل بأن الوقت بدأ ينفد أمام قدرتها على كبح البرنامج الإيراني قبل بلوغه نقطة “اللاعودة”، وسط مخاوف من دخول المنطقة مرحلة جديدة من “الصراع تحت السقف النووي”.

ويعيد هذا التطور الخطير فتح النقاش القديم الجديد حول ما إذا كانت الضربات الوقائية قادرة فعلًا على تعطيل المسار النووي الإيراني أم إنها مجرد محطات مؤقتة تزيد من إصرار طهران على امتلاك التكنولوجيا النووية الكاملة.

كما يضع المواجهة في سياق أوسع يرتبط بالتحولات في موازين القوى الإقليمية، وبتبدل أولويات الفاعلين الدوليين في المنطقة، وخاصة الولايات المتحدة التي تجد نفسها أمام مفترق جديد بين الالتزامات الأمنية التقليدية تجاه إسرائيل ومصالحها الإستراتيجية الأوسع في تهدئة الشرق الأوسط.

ضمن هذا الإطار، يسعى هذا التقرير إلى قراءة للوقائع الميدانية والمواقف السياسية والتقديرات الإستراتيجية للأطراف المنخرطة في هذا الصراع المركب، من منظور يرتبط بتداعياته الإقليمية والدولية، واحتمالات التصعيد أو العودة إلى مسار تفاوضي جديد أكثر صرامة.

واشنطن بين سياسة الاحتواء واستثمار القوة

تشير تصريحات المسؤولين الأميركيين والدلائل الميدانية والتقارير الإعلامية إلى التنسيق الواضح بين واشنطن وتل أبيب في هذه المواجهة، وجاءت تصريحات الرئيس دونالد ترامب بعد الضربات الإسرائيلية فجر أمس الجمعة لتكشف بوضوح عن هذا التعاون.

فقد قال ترامب لشبكة “إيه بي سي” إن إدارته منحت الإيرانيين فرصة ولم يستغلوها وتلقوا ضربة قاسية جدا، مؤكدا أن هناك مزيدا في المستقبل.

وفي تصريحات لموقع أكسيوس الأميركي، قال الرئيس الأميركي “كان على إيران التوصل إلى اتفاق قبل انتهاء مهلة الـ60 يوما التي منحتها لها، وأضاف “ربما يوافق الإيرانيون الآن على اتفاق نووي”، مشيرا إلى أن “إسرائيل استخدمت معدات أميركية عظيمة خلال الهجوم”.

واعتبر أنه يجب على إيران التوصل إلى اتفاق قبل أن يذهب كل شيء وإنقاذ ما كان عرف سابقا بالإمبراطورية الإيرانية، وفق تعبيره.

وسبق ذلك تصريح مستشار الأمن القومي الأميركي وزير الخارجية ماركو روبيو بأن “العمل العسكري قد يمهّد لاتفاق نووي طويل الأمد” يكشف عن رغبة واشنطن في توظيف التفوق الإسرائيلي لفرض شروط تفاوضية جديدة على إيران.

كذلك عززت هذا الاستنتاج المعطيات التي نشرتها قناة “إن بي سي” عن اتصالات سرية بين مستشاري الأمن القومي الأميركي والإسرائيلي قبل أسبوعين من الضربة، إضافة إلى أن تحركات القوات الأميركية في الخليج عشية العملية أشارت إلى حالة استعداد تحسبًا لأي تصعيد إيراني محتمل تجاه المصالح الأميركية.

في هذا السياق، تلعب المواجهة دورًا مزدوجًا في الرؤية الأميركية، فهي اختبار لإرادة إيران على الصعيد العسكري، وفي الوقت ذاته إظهار الحزم أمام القوى الدولية الأخرى، لا سيما روسيا والصين، بأن واشنطن ما زالت الفاعل الرئيسي في هندسة التوازن الإقليمي.

روسيا والصين.. مصالح الطاقة والحضور الدولي

جاء رد الفعل الروسي سريعًا على لسان وزارة الخارجية التي وصفت الضربة الإسرائيلية بأنها “خرق للقانون الدولي وسيادة دولة عضو في الأمم المتحدة”، وهو موقف تقليدي يتناسب مع رغبة موسكو في تثبيت دورها كلاعب دولي مدافع عن النظام الدولي، خاصة في مواجهة السياسة الأميركية الأحادية.

لكن الموقف الروسي لا ينفصل عن المصالح الميدانية؛ فقد كشفت وكالة “إنترفاكس” الروسية أن موسكو أبلغت عبر قنوات خلفية طهران أن “أي تصعيد ميداني سيؤثر سلبًا على مشاريع الطاقة الروسية المشتركة مع إيران”، لا سيما في مجالات الغاز وخطوط التصدير الجديدة عبر بحر قزوين.

أما الصين، الحليف الاقتصادي الأكبر لطهران، فقد اكتفت ببيانات دبلوماسية تحث على التهدئة، لكنها عبّرت في الوقت ذاته عبر صحيفة “غلوبال تايمز” عن “قلق حقيقي من أن تؤثر الضربة على استقرار طرق إمداد الطاقة”، مما يعكس أن أولويات بكين ليست حماية إيران بقدر ما هي حماية خطوط تجارتها.

صور 6+7 نتنياهو يتفقد الوحدات البرية بالجيش الإسرائيلي مع إعلان رئيس الأركان زامير توسيع العملية البرية في قطاع غزة. من تصوير مكتب الصحافة الحكومي الإسرائيلي، عممها للاستعمال الحر لوسائل الإعلام)

إسرائيل.. بين الإنجاز العسكري وكلفة المخاطرة

الموقف الإسرائيلي كان الأكثر وضوحًا من حيث الأهداف والرؤية الإستراتيجية، فقد أكد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن الضربة “لن تكون الأخيرة ما دام التهديد النووي قائمًا”، معلنًا أنها “مبادرة إسرائيلية مستقلة حتى لو تطلّب الأمر مواجهة مع قوى كبرى”. هذا الخطاب يكشف التحول في عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي من الردع إلى المبادرة الاستباقية.

ونشرت صحيفة “هآرتس” معطيات تفيد بأن الضربة استهدفت 100 موقع حيوي بينها منشأة نطنز لتخصيب اليورانيوم ومنشأة بارشين العسكرية، كما أسفرت -بحسب تقديرات مجلة “فورين بوليسي”- عن تدمير كبير في البنية التحتية لتخصيب اليورانيوم المتطور.

لكن في المقابل، يدرك صناع القرار في إسرائيل أن هذه المغامرة تحمل أثمانًا ثقيلة، خاصة إذا ما قررت إيران نقل المعركة إلى مستوى المواجهة الإقليمية أو التصعيد النووي العلني، وهو ما سيعيد المنطقة إلى نمط حرب كبرى لا تملك إسرائيل بمفردها القدرة على التحكم بكامل تداعياتها.

إيران والرد الانتقامي

يبدو أن الجناح الذي يقوده الحرس الثوري نجح في حسم خيارات طهران من خلال الدفع باتجاه رد مباشر وصريح على إسرائيل لاستعادة الهيبة، مقابل تيار آخر داخل الحكومة كان يدعو إلى ضرورة التريث، والعمل على إعادة ترميم القدرات العسكرية والعلمية قبل الانزلاق في مواجهة شاملة قد تكون نتائجها كارثية.

وجاء تصريح المرشد الأعلى علي خامنئي بأن “الرد سيكون مدروسًا ومؤلمًا”، كإشارة إلى محاولة الموازنة بين الرغبة في الانتقام وضبط الإيقاع العام للأزمة.

في الجانب الشعبي والسياسي، شهدت المدن الإيرانية مسيرات حاشدة منددة بالضربة، إلا أن التقارير الواردة من داخل إيران تشير أيضًا إلى حالة غضب ضمني تجاه فشل المؤسسات الأمنية في منع الضربة، مما عزز الفرصة لدى صناع القرار لاتخاذ خطوات انتقامية، ليس فقط لأسباب تتعلق بالصراع مع إسرائيل، بل أيضًا لحفظ التوازن الداخلي للنظام في مواجهة الانتقادات الشعبية المتزايدة.

ورأى الباحث الأول في مركز الجزيرة للدراسات الدكتور لقاء مكي، في حديثه خلال تغطية خاصة على شاشة الجزيرة، أن الرد الإيراني غير المسبوق، والذي استهدف العمق الإسرائيلي بعشرات الصواريخ، أظهر تحول المواجهة من مجرد عمليات محدودة إلى ما يبدو أنه بداية لحرب فعلية، منبها إلى أن الانعكاسات الفورية لهذا الصراع بدأت تظهر في غلق أجواء 5 دول وتعطيل النشاط الاقتصادي.

وحذر من أن اتساع رقعة القصف قد يشمل مدنا وعواصم في المنطقة، وأن احتمالية دخول الولايات المتحدة على خط المواجهة قائمة، رغم محاولاتها التحفظ على المشاركة المباشرة.

حلفاء إيران.. قدرات مقيدة ورغبة متوقدة

أظهرت الوقائع الميدانية أن قدرات المحور الإقليمي الموالي لإيران تعاني من قيود كبيرة في هذه المرحلة الحرجة.

فحزب الله اللبناني وجد نفسه في مواجهة ضغوط دولية غير مسبوقة، سواء من فرنسا أو من دوائر الأمم المتحدة، لمنع انزلاقه إلى مواجهة مفتوحة مع إسرائيل.

كذلك فإن الجبهة الداخلية اللبنانية تعاني أصلًا من أزمات اقتصادية وسياسية تجعل من مغامرة الدخول في حرب جديدة قرارًا مكلفًا على كافة المستويات.

الوضع لم يكن مختلفًا لدى المليشيات الموالية لإيران في العراق وسوريا، ففي بغداد أعلن قادة الحشد الشعبي حالة التأهب، لكنهم امتنعوا عن تنفيذ عمليات ذات أثر إستراتيجي مباشر منذ وقوع الضربة.

وتشير تقديرات مركز الدراسات الإستراتيجية في بغداد إلى أن “التنسيق الأميركي مع حكومة محمد شياع السوداني أسهم بشكل حاسم في فرملة أي تحرك عسكري نوعي للمليشيات”.

وأكد تقرير خاص لوكالة “رويترز” أن هناك رسائل أميركية مباشرة أُبلغت للحكومة العراقية تتضمن تحذيرات واضحة من مغبة السماح بانطلاق عمليات انتقامية من الأراضي العراقية ضد إسرائيل أو القوات الأميركية.

أما سوريا فقد نفذت فيها إسرائيل غارات وقائية مكثفة ضد مواقع مليشيات موالية لإيران في دير الزور وحمص، كما أنها تعاني من تغييرات “البيئة الجيوسياسية المعادية” بعد سقوط نظام بشار الأسد.

وأكدت هذه المعطيات أن المحور الإيراني يواجه حصارا عسكريا واستخباراتيا كثيفًا يمنع حتى اللحظة الحلفاء من تنفيذ عمليات انتقام ذات طابع إستراتيجي.

ويستثنى من ذلك حركة أنصار الله الحوثي في اليمن التي أعلنت دخول الحرب الى جانب إيران، وبطبيعة الحال حركة حماس التي تواجه حرب إبادة في قطاع غزة، لكنها أعلنت وقوفها إلى جانب إيران.

وأعلن أبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسام الجناح العسكري للحركة تضامن حماس مع إيران في وجه العدوان الإسرائيلي، وقال إن هذا العدوان لن يقوض جبهات المقاومة.

دول الخليج والقلق المضاعف

تتخوف دول الخليج من أن تصبح أراضيها أو منشآتها النفطية أهدافًا خلال هذه المواجهة، ودعت في بيان “الأطراف إلى ضبط النفس وتجنيب المنطقة المزيد من التوتر الذي لا تتحمله شعوبها ولا اقتصاداتها”.

القلق الخليجي لم يكن ناتجًا فقط عن احتمال تعرض المنشآت النفطية للهجوم، بل أيضًا عن الخوف من اضطراب طرق الملاحة في الخليج العربي ومضيق هرمز.

ويأتي ذلك في ظل تجربة دول الخليج القاسية مع الاعتداءات السابقة على منشآت أرامكو عام 2019، مما جعل هذه العواصم تتعامل مع التصعيد الإسرائيلي الإيراني كحدث وجودي يتجاوز الحسابات السياسية المعتادة.

ونقلت صحيفة “فايننشال تايمز” عن مسؤول خليجي رفيع أن “أي اضطراب في مضيق هرمز سيعيد ترتيب الأسواق العالمية بالكامل ويضع الخليج في مرمى العاصفة الاقتصادية والسياسية”.

وإلى جانب المخاوف الأمنية المباشرة، بات واضحًا أن دول الخليج تسعى لاحتواء المشروع النووي الإيراني ولا تريد أن تدفع ثمن مغامرات الآخرين.

كما تتزايد الدعوات داخل الأوساط الخليجية لإعادة النظر في العلاقة مع إسرائيل التي بدت أكثر اندفاعًا نحو المغامرة من دون التنسيق الكامل مع الشركاء الإقليميين.

التوقعات والاحتمالات ومفترق الطرق الإقليمي

تبدو خارطة التوقعات للمشهد الإقليمي مفتوحة على سيناريوهات متضاربة، ويرى مراقبون أن طبيعة الرد الإيراني جاءت محسوبة لتفادي الاستدراج إلى حرب واسعة.

لكن الرد الإيراني لا يخلو من الأخطار، فهو يفتح الباب أمام دورة جديدة من التصعيد قد تفقد طهران السيطرة عليها -وفق تقرير نشره موقع الجزيرة نت- خصوصًا مع تآكل قدرة منظوماتها الدفاعية على مواجهة هجمات جوية ونوعية متزامنة.

في المقابل، أظهرت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية استعدادًا واضحًا لتوسيع دائرة العمليات إذا قررت إيران فتح جبهة مباشرة.

من جانب آخر، تلعب الولايات المتحدة دورا مزدوجا في هذه المرحلة، فهي ترى في التصعيد فرصة لفرض صفقة نووية جديدة بشروط أكثر صرامة، مما يكشف عن رغبتها في استخدام نتائج الضربة كأداة سياسية أكثر منها عسكرية.

ويلخص الباحث جوناثان بانيكوف في تقرير نشره “المجلس الأطلسي” المشهد بقوله إن “المواجهة نجحت في فرض وقائع جديدة لكنها خلقت أيضًا فراغًا إستراتيجيا يتطلب إعادة تعريف للتحالفات والقواعد في الشرق الأوسط”.

ويتابع أن هذا الفراغ يترك المنطقة أمام مفترق طرق: إما العودة إلى طاولة المفاوضات على قاعدة جديدة من توازن القوة، أو الانزلاق إلى تصعيد لا تملك أي من الأطراف الرئيسية السيطرة الكاملة على مآلاته.

وفي كلتا الحالتين، أصبح واضحًا أن الشرق الأوسط دخل مرحلة جديدة من الصراع المفتوح بين البرنامج والمخاطرة النووية.

صراع تحت السقف النووي

وفي المحصلة تكشف المواجهة أن المنطقة تدخل مرحلة جديدة من “الصراع تحت السقف النووي”، حيث لم تعد الخيارات التقليدية قادرة على تحقيق مكاسب نهائية لأي طرف.

فقد أرادت إسرائيل من هذه العملية إرسال رسالة مزدوجة:

  • الأولى لإيران بأن المشروع النووي لن يُترك ليبلغ مراحله النهائية من دون كلفة.
  • الثانية لحلفائها في الغرب، خصوصًا واشنطن، بأن تل أبيب مستعدة للتحرك منفردة إذا ما شعرت بأن الدبلوماسية عاجزة عن تحقيق أهدافها.

في المقابل، لا تزال إيران قادرة على المناورة، والخيارات المتاحة أمام طهران تشمل توظيف الحلفاء الإقليميين للرد بشكل غير مباشر، أو الدخول في لعبة التفاوض من موقع القوة عبر إظهار مرونتها النووية مقابل تنازلات اقتصادية وسياسية.

ويبقى مستقبل المشهد معلقًا على توازن دقيق بين الحماسة الانتقامية في طهران، والمغامرة العسكرية في تل أبيب، وحسابات المصالح الباردة في واشنطن والعواصم الغربية والقوى الشرقية.

الأكيد أن قواعد الاشتباك في الشرق الأوسط بعد هذه الضربة لن تعود كما كانت، سواء سار الجميع نحو طاولة المفاوضات أو اندفعوا إلى جولة جديدة من المواجهة المكلفة. فالمنطقة تقف على مفترق طرق بين خيار البرنامج النووي وخيار المخاطرة الإقليمية.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version