كييف- منذ عدة شهور يحبس الروس والأوكرانيون أنفاسهم، ويترقب العالم أجمع تلك العمليات المضادة التي تعتزم كييف شنها ضد الوجود الروسي على أراضيها شرقا وجنوبا؛ فتحشد لها تحالفات في مجالات شتى، ومساعدات عسكرية سخية وغير مسبوقة، يقدمها “الشركاء”، كما تصفهم.
تشكل هذه الاستعدادات هاجسا كبيرا للروس في المناطق الأوكرانية التي يسيطرون عليها كليا أو جزئيا، وتعكسه خطوط دفاعية يستعجلون بناءها في كثير من مقاطعات الجنوب، وخوض رسمي وشعبي كبير في التوقعات والتحذيرات، أو حتى التقليل من حجم ونتائج تلك العمليات.
في حين ينظر معظم الأوكرانيين إليها من زاوية الأمل في تحرير الأراضي، أو -على الأقل- الحد الكبير من رقعة الحرب وتداعياتها عليهم.
لكن هل ستكون تلك العمليات حاسمة فعلا في العام الجاري، أو أنها ستشمل عدة جولات من المعارك الضرورية للحفاظ على ثقة الداخل في قيادة البلاد، وثقة “الشركاء” الداعمين لها؟
الإجابة على هذا السؤال محل انقسام بين أكبر المسؤولين الأوكرانيين؛ وبالتالي فهي عمليات قد تتجاوز حدود الصيف إلى الخريف أو ما هو أبعد، على عكس الرغبة الأوكرانية المعلنة سابقا.
على سبيل المثال، رئيس دائرة الاستخبارات في وزارة الدفاع كيريلو بودانوف يرى أن الوصول إلى حدود عام 1991 (بما يشمل القرم وكامل إقليم دونباس) ممكن في 2023.
أما الرئيس فولوديمير زيلينسكي ووزير الخارجية دميترو كوليبا فيريان أن العمليات مهمة لتعزيز الثقة في القيادة وسط العامة داخل البلاد، وكذلك بين “الشركاء” الغربيين، وأنها لن تكون سيلا جارفا، بل قد تشمل عدة معارك وجولات.
عوامل النجاح
تنقسم آراء الخبراء أيضا بين من يتوقعون أن تقلب أوكرانيا الواقع سريعا لصالحها، وآخرين يدعون إلى عدم التهوين من قدرات روسيا الدفاعية.
فمن جهته، يقول الخبير العسكري بتيرو تشيرنيك إن “أوكرانيا زادت بشكل كبير إمكاناتها العسكرية، بصورة تمكنها من تحرير جميع أراضيها فعلا”، على حد قوله.
وفي مقابلة مع قناة “تي إس إن” المحلية، أضاف تشيرنيك أن “مسألة الهجوم المضاد محمومة إلى حد كبير في الفضاء الإعلامي؛ وهذا هو الشيء الوحيد الذي قد يؤثر سلبا على نتائجها”.
ويوضح هذا الأمر إيفان ستوباك عضو “معهد دراسات الحرب” البريطاني، والخبير العسكري في “المعهد الأوكراني للمستقبل”؛ إذ يقول -في حديث للجزيرة نت- إن “أوكرانيا حصلت على جل ما طالبت به لعمل توازن في القدرات مع روسيا وتحقيق النصر من منظورها (1000 مدفع هاوتزر من عيار 155 ملم، و300 نظام إطلاق صواريخ متعددة، إضافة إلى 500 دبابة، و2000 مركبة مدرعة، و1000 طائرة مسيرة).
وأوضح أن أوكرانيا حصلت على كميات كبيرة مما طالبت به، لكنها حصلت لاحقا على أسلحة نوعية لم تكن مطلوبة أصلا في بداية الحرب، غيرت مسار وخطط الحرب جذريا لصالحها، وأكسبتها زمام المبادرة الهجومية على الجبهات منذ عدة شهور، كنظم “هيمارس” المدفعية، ونظم “باتريوت” وغيرها للدفاع الجوي، ودبابات ليوبارد وغيرها، والصواريخ بعيدة المدن، كما أن الحديث اليوم يدور حول طائرات “إف-16” (F-16).
وتابع “مدى أسلحتنا يصل اليوم بدقة إلى أبعد نقطة من حدودنا الخارجة عن السيطرة؛ كما أن قوام مقاتلينا بلغ عمليا 700 ألف بين نظاميين ومتطوعين يلبسون الزي العسكري؛ 200 ألف منهم مدربون بشكل جيد محليا وخارجيا، والطقس أيضا يخلق مناخا مناسبا لبدء هذه العمليات ونجاحها على نطاق واسع”.
حائط الدفاعات
من جهة أخرى، يرى عقيد الاحتياط والخبير العسكري أوليغ جدانوف أن “الحرب دمرت قدرات روسيا الهجومية، لكنها لم تؤثر على قدراتهم الدفاعية، التي يعززونها في القرم وزاباروجيا وخيرسون منذ 6 أشهر، بعد الهجمات المضادة الناجحة للقوات الأوكرانية في خاركيف شرقا وجزء من خيرسون جنوبا”.
وفي حديث مع الجزيرة نت، يرى جدانوف أنه “لا ينبغي توقع العجائب من العمليات المضادة؛ فالواقع يقول إنها ستكون صعبة، بغض النظر عن القدرات المتاحة لدينا في أوكرانيا اليوم”.
وأضاف “يجب أن نعلم أن روسيا تهددنا على طول حدود تبلغ نحو 2500 كيلومتر، وجبهات ساخنة لا يقل طولها عن 1250 كيلومترا، بالإضافة إلى التهديد المستمر من إقليم “ترانسنيستريا” الانفصالي في مولدوفا، ومن الأراضي البيلاروسية؛ هذا كله يصب في مصلحة الروس، ويصعّب المهمة بغض النظر عن حجم القدرات لدينا”.
وتابع أنه “في زاباروجيا والقرم بنى الروس عدة حوائط دفاعية، لا يقل عددها عن 3، ودعنا نعترف بأننا والعالم نخشى انتقاما دمويا وجنونيا قد يشنه بوتين إذا شعر بالهزيمة التي نرى اليوم أنها حليفته لا محالة”.
ولهذا كله، يرى الخبير أن “العمليات المضادة ستكون -على الأغلب- على مراحل، لتجاوز الصعوبات تدريجيا، وتكسب الجيش ثقة أكبر من الشعب والداعمين، وتفصلها عن بعض فترات من جس النبض وإعادة التقييم”.
ماذا لو فشلت؟
بغض النظر عن النتائج والفترات الزمنية المتوقعة لهذه العمليات، يطرح سؤال نفسه: “ماذا لو فشلت هذه العمليات الأوكرانية المضادة؟”
يجيب المحلل العسكري يوري فيدوروف بالقول “أعتقد أن هذا مستبعد، لأن العمليات تمت بنجاح في مقاطعات مهمة بالنسبة لروسيا، وقبل أن تصلنا كل المساعدات العسكرية النوعية المتاحة حاليا”.
لكن فيدوروف يشير في حديثه للجزيرة نت إلى أن “الروس يسعون بالفعل في هذا الاتجاه، للحد -على الأقل- من نتائج تلك العمليات، بمحاولات يومية نراها للكشف عن أنظمة الدفاع الجوي التي تحمي المدن وظهور القوات الأوكرانية قبل تقدمها.
ويرى فيدوروف أن “حجم تلك النتائج في 2023 سيحدد إلى متى سيطول أمد هذه الحرب؛ لكنه -باعتقادي- لن يؤثر على ثقة الشعب في جيش البلاد، وقناعة الغرب بأهمية الدعم الذي يقدمه إلى أوكرانيا لهذا الغرض، والحد أكثر من نفوذ روسيا وأطماعها”.