هذا التحول المفاجئ في الخطاب الغربي، والذي تزامن مع إعلان الرئيس دونالد ترامبرفع العقوبات الأميركية، تبعه ترحيب حذر من العواصم الأوروبية، وسط انقسام داخلي حول ما إذا كانت هذه الخطوة تعكس رغبة حقيقية في بناء سلام دائم، أم مجرد مناورة جيوسياسية لاحتواء إيران وروسيا.

من استنزاف الدولة إلى إنقاذ المجتمع.. لماذا آن أوان رفع العقوبات؟

يرى البرلماني السوري السابق والأكاديمي الدكتور محمد حبش خلال حديثه إلى غرفة الأخبار على سكاي نيوز عربية أن القرار الأميركي لم يأتِ من فراغ، بل هو “تعبير عن إدراك متأخر لحقيقة ساطعة: العقوبات لم تُسقط النظام، لكنها أسقطت حياة الناس”.

وشدد حبش على أن استمرار العقوبات هو استمرار لوهم سياسي تجاوزه الواقع السوري، قائلا: “الشعب السوري هو من تضرر من هذه العقوبات، لا النظام”.

وأضاف أن المسألة لم تعد سياسية بقدر ما أصبحت إنسانية واقتصادية، موضحا: “العقوبات عطلت الإنتاج، دمرت الطبقة الوسطى، وعمّقت النزوح. إنها تشبه ضمادة تُغلق الجرح لكنها تمنع الهواء عن الجسد”.

وتابع: “نحتاج إلى استثمار دولي في التعليم، والبنية التحتية، والطاقة، وليس فقط مساعدات إنسانية”.

وختم حبش حديثه بالقول: “استقرار سوريا مصلحة أوروبية بامتياز، تتجاوز الحسابات الأخلاقية إلى الأمن القومي الأوروبي ذاته”.

العقوبات الأوروبية فقدت فعاليتها.. وأوروبا أمام امتحان ضمير

الباحث والأكاديمي الفرنسي، الدكتور جون بيير ميلالي، قدم مقاربة مركبة تُظهر كيف تحوّلت العقوبات من أداة ضغط إلى عبء مزدوج: أخلاقي واستراتيجي.

وأوضح ميلالي: “لم تُسقط العقوبات النظام السوري، لكنها أطاحت بأي أمل بعودة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. إنها عقوبات ضد البقاء اليومي للمواطن السوري”.

ويرى ميلالي أن التحول الأميركي يمثل فرصة نادرة أمام أوروبا لمراجعة أدواتها السياسية، مضيفا: “التحول ليس في القرار الأميركي فحسب، بل في إدراك الغرب أن السياسة العقابية باتت تخدم خصومه أكثر مما تؤثر في خصومه”.

وبيّن أن: “رفع العقوبات هو اختبار للثقة بين أوروبا والشعب السوري، وليس بين أوروبا والنظام فقط. إن بناء علاقة نزيهة مع السوريين يتطلب التخلي عن منطق المشروطيات السياسية المطلقة، والانطلاق نحو رؤية طويلة المدى تربط بين الانفتاح الاقتصادي والإصلاح السياسي الداخلي”.

وحذر ميلالي في نهاية تحليله من أن الإبقاء على العقوبات سيعني ببساطة تسليم الملف السوري لإيران وروسيا على طبق من فراغ سياسي.

الانفتاح الغربي ليس شيكاً مفتوحاً.. وسوريا مطالبة بإعادة هيكلة ذاتها

من زاوية مغايرة، يتناول الأكاديمي والباحث السياسي ياسر النجار الموضوع بنَفَس نقدي يعكس مخاوف حقيقية من تفويت الفرصة التاريخية، حيث يقول: “الانفتاح الغربي على دمشق ليس بياضا على بياض. إنه مقترن بشروط ضمنية تتعلق بتوسيع قاعدة الحكم، ووقف التجييش الطائفي، وتحقيق العدالة الانتقالية”.

ونبّه النجار من أن أي تراخٍ في التعامل مع هذه اللحظة سيعيد البلاد إلى نقطة الصفر: “العالم يراقب دمشق، وينتظر إشارات على وجود إرادة حقيقية للتغيير. رفع العقوبات دون إصلاح داخلي سيكون مجرد استراحة قصيرة في مسلسل الانهيار”.

ووفق النجار فإن النظام السوري مطالب اليوم بأكثر من مجرد استقبال الأموال أو الاستثمارات، بل بإعادة تعريف العقد الاجتماعي، وإرساء آليات شفافة للحكم، وتمكين قوى المجتمع المدني، وإعادة هيكلة المؤسسات الاقتصادية بما يخلق بيئة جاذبة للمستثمرين.

دون مشروع تنموي شامل.. القرار الأميركي خطوة ناقصة

الكاتب والباحث السياسي إيهاب عباس، يرى أن خطوة واشنطن تأتي في سياق أكبر من الملف السوري، ويقول: “ما نراه اليوم هو إعادة تموضع أميركي في الشرق الأوسط، مدفوع برغبة في احتواء تداعيات اللجوء، وتقليم أظافر النفوذ الإيراني”.

وعن مرحلة ما بعد رفع العقوبات، قال عباس: “دون خطة شاملة لإعادة الإعمار والمصالحة الوطنية، فإن هذا القرار سيبقى خطوة ناقصة. رفع القيود لا يعيد الكهرباء، ولا يُنشئ مدارس، ولا يُنتج وظائف”.

وأشار عباس إلى أنه على أوروبا، بما تملكه من موارد ومؤسسات، تمتلك القدرة على قيادة مشروع اقتصادي جاد في سوريا، شريطة تجاوز الحسابات الضيقة والانخراط في شراكة تنموية حقيقية.

هل تتحقق العدالة الانتقالية؟

من أبرز النقاط التي شدد عليها جميع المتحدثين هي ضرورة تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.

وحول ذلك قال حبش إن “المطالب الأميركية والأوروبية، رغم ما تحمله من طابع سياسي، تتقاطع في جوهرها مع مطالب السوريين أنفسهم”.

فالسوريون، وفق قول حبش، هم أول من يطالب بحكومة موسعة، ووقف التحريض، وتوسيع المشاركة السياسية.

اللافت أيضا في الوضع السوري أن هناك اليوم هيئة رسمية سورية تعمل في ملف العدالة الانتقالية، وهي خطوة رمزية تشير إلى رغبة في المضي نحو شكل من أشكال الإنصاف التاريخي، ومع ذلك، تبقى هذه الهيئة بحاجة إلى دعم دولي فني ومادي لضمان مصداقيتها.

سوريا بين احتمالات التعافي ومخاطر الانتكاس.. أوروبا على المحك

رفع العقوبات عن سوريا لا يمثل فقط لحظة سياسية فارقة، بل يشكل اختبارا تاريخيا لعلاقة المجتمع الدولي بهذا البلد الذي خرج منهكا من عقد ونصف من الحرب والدمار.

وإذا كان القرار الأميركي نقطة انطلاق، فإن المسؤولية الأكبر الآن تقع على عاتق أوروبا.

فالمطلوب ليس فقط رفع العقوبات، بل وضع خارطة طريق متكاملة لإعادة بناء الدولة السورية، اقتصاديا وسياسيا، وبما يضمن بقاء وحدة البلاد ويمنع إعادة إنتاج الأزمة.

كما أن دمشق مطالبة بإثبات حسن النية والانفتاح على الداخل والخارج، وتقديم إصلاحات حقيقية تعزز الثقة.

وبين ضغوط الداخل وحسابات الخارج، تبقى سوريا على مفترق طرق: إما الاندماج في النظام العالمي الجديد كمكوّن مستقر، أو العودة إلى العزلة والفوضى.

فهل يتلقف السوريون هذه اللحظة التاريخية، أم تُهدر كما أُهدرت فرص كثيرة في الماضي؟.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version