بقلم:&nbspHassan Haidar&nbsp&&nbspيورونيوز

نشرت في

اعلان

أثار تصريح المبعوث الرئاسي الأميركي الخاص توم باراك حول احتمال “عودة لبنان إلى بلاد الشام” في حال فشلت حكومته في معالجة سلاح حزب الله، عاصفة من الجدل السياسي والإعلامي في بيروت، واعتُبر على نطاق واسع بمثابة تهديد مباشر للبنان أو تلميح بانهيار خصوصيته الكيانية واستقلاله السياسي.

ففي حديث لصحيفة “ذا ناشيونال”، حذّر باراك من أن لبنان يواجه “تهديدًا وجوديًا”، قائلاً: “إسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، والآن سوريا تتجلّى بسرعة كبيرة. وإذا لم يتحرّك لبنان، فسيعود إلى بلاد الشام من جديد”.

باراك يوضح: “لم أقصد تهديد لبنان”

ومع تصاعد التفاعل، عاد باراك ليُصدر توضيحًا أكد فيه أنه “أشادت تعليقاتي بالخطوات الكبيرة التي قطعتها سوريا، لا بتهديدها للبنان. لاحظتُ أن سوريا تتحرك بسرعة البرق لاغتنام الفرصة التاريخية التي أتاحها رفع العقوبات من قِبل الرئيس الأميركي: استثمارات من تركيا والخليج، وتواصل دبلوماسي مع الدول المجاورة، ورؤية واضحة للمستقبل”.

لكن رغم التوضيح، ظلّت المخاوف اللبنانية قائمة، خصوصًا أنّ أي حديث عن “بلاد الشام” يوقظ تلقائيًا هواجس لبنانية عميقة ترتبط بتاريخ الكيان وحدوده وهويته السياسية.

سوريا الجديدة… والمخاوف القديمة

النظام السوري الحالي بقيادة الرئيس الإنتقالي أحمد الشرع، الذي وصل إلى الحكم بعد إسقاط نظام بشار الأسد، يتموضع سياسيًا على النقيض من سلفه تجاه بعض القوى المحلية وعلى رأسها حزب الله.

وهذا التحوّل في التموضع لم يبدّد القلق في لبنان، بل زاد منسوب التوجس، خصوصًا أن الشرع نفسه كان معروفًا كزعيم سابق لـ “جبهة النصرة”، التنظيم الذي قاد معارك ضد الجيش اللبناني وخطف عددًا من العسكريين اللبنانيين في عرسال عام 2014.

فضلًا عن ذلك، فإن سوريا نفسها لم تستقر بعد. فلا تزال مناطق الساحل السوري وبعض المحافظات الداخلية تعيش حالة من التفكك الأمني والاجتماعي، وسط انتشار السلاح والفوضى، ومشهد الحرب الطويلة ما زال عالقًا في أذهان اللبنانيين الذين عايشوا موجات النزوح، وتدفّق المقاتلين، والاشتباكات العابرة للحدود، خصوصًا في مناطق البقاع.

من هنا، فإن الحديث عن “عودة لبنان إلى بلاد الشام” لا يُقرأ فقط بوصفه توصيفًا سياسيًا، بل كتذكير بكابوس إقليمي لم يُطوَ تمامًا، فيما الدولة اللبنانية لا تزال عاجزة عن فرض سيادتها الكاملة أو حماية نسيجها الداخلي من تأثيرات الخارج.

أزمة اللاجئين السوريين… واقع يفاقم القلق

في ظل هذه التحولات، تبرز مخاوف متزايدة من استغلال سياسي وأمني لملف اللاجئين السوريين الموجودين في لبنان، والذين يُقدّر عددهم بنحو مليوني شخص. ومع تفاقم التوترات الداخلية والانقسام حول مستقبل العلاقة مع النظام السوري الجديد، تتخوف شرائح لبنانية واسعة من أن يُوظف هذا الملف للضغط أو التأثير في المشهد اللبناني، خصوصًا مع ضعف الدولة وتراجع قدرتها على ضبط الملفين الأمني والديموغرافي.

يرى كثيرون أن وجود هذا العدد الضخم من النازحين، في ظل غياب خطة واضحة للعودة أو التسوية، يجعل لبنان أكثر هشاشة تجاه أي موجة نفوذ أو تدخل خارجي، سواء أكان سياسيًا أم أمنيًا، ما يُفاقم الإحساس بأن الكيان اللبناني مهدّد فعليًا في توازنه.

من لبنان الكبير إلى مرحلة الوصاية والحروب

يرجع تاريخ القلق اللبناني من فكرة “بلاد الشام” إلى مطلع القرن العشرين، حين أُعلن لبنان الكبير في الأول من أيلول 1920 بقرار من الحاكم الفرنسي الجنرال هنري غورو. هذا القرار شكّل مرحلة فاصلة في تاريخ المنطقة، حيث جمع بين بيروت وجبل لبنان والبقاع والشمال والجنوب، مفصولًا إداريًا عن سوريا الطبيعية التي كانت لا تزال تحت الانتداب الفرنسي. تأسيس لبنان الكبير جاء بناءً على موازين قوى طائفية وسياسية دقيقة، سعت للحفاظ على كيان لبناني متميّز على الصعيد الديموغرافي والسياسي.

في المقابل، ظهرت “سوريا الكبرى” في الفكر القومي السوري في منتصف القرن العشرين، على يد مفكرين مثل أنطون سعادة، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي دعا إلى وحدة المشرق العربي، شاملاً سوريا، لبنان، فلسطين، العراق، والأردن. كما تبنّى حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي تأسس في الثلاثينات، مشروع الوحدة العربية الكبرى، واعتبر لبنان جزءًا من “الفضاء السوري الطبيعي” من الناحية التاريخية والسياسية.

لكن هذه الرغبة اللبنانية في تميّز الهوية والسيادة، لم تصمد أمام المتغيرات الإقليمية الكبرى، خصوصًا مع تصاعد النزاعات والحروب في لبنان والمنطقة، ففي العام 1976، خلال الحرب الأهلية اللبنانية، دخلت قوات الردع العربية بقيادة سوريا إلى لبنان، تحت شعار حفظ السلام وإنهاء الصراع. لكن مع مرور الوقت، تحوّل هذا الوجود إلى وصاية سورية شاملة على القرار اللبناني، السياسية والعسكرية والأمنية، وشملت سيطرة دمشق على لبنان الإدارة، الانتخابات، التعيينات، وحتى المواقف السياسية على كل المستويات.

من أبرز محطات هذه الوصاية، الحرب التي شنّها قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون بين 1989 و1990، والتي أطلق عليها “حرب التحرير” ضد الجيش السوري. هذه المعركة انتهت باجتياح قصر بعبدا في تشرين الأول 1990، وإجبار عون على المنفى، وسط دعم دولي واسع لفرض اتفاق الطائف، الذي جاء في 1989 وأعاد تنظيم النظام السياسي اللبناني.

واستمر النفوذ السوري في لبنان حتى عام 2005، حين أدت الضغوط الشعبية والدولية إلى انسحاب القوات السورية، عقب اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، والذي اعتبر نقطة تحوّل في تاريخ العلاقة اللبنانية-السورية.

خلال هذه العقود، شهد لبنان تداخلًا أمنيًا وسياسيًا مع سوريا، ما ترك بصمات عميقة على الهوية الوطنية اللبنانية، وعلى العلاقات الاجتماعية والطائفية.

الحفاظ على الاستقلال؟

اليوم، في ظل أزمة اقتصادية غير مسبوقة، وشلل سياسي، وعجز أمني، يخشى كثيرون أن يُعاد إنتاج شكل من أشكال النفوذ الخارجي في لبنان، من بوابة سوريا الجديدة التي تتحرك بسرعة نحو ملء الفراغات الإقليمية، ولو من موقع سياسي مختلف.

تحذير باراك، وإن جاء لاحقًا مغلّفًا بتوضيحات، أعاد فتح الباب أمام سؤال قديم جديد: هل يستطيع لبنان الحفاظ على استقلاله، أم أنّه في طريق العودة إلى صيغ سابقة من التبعية، تحت مسميات مختلفة؟.

شاركها.
اترك تعليقاً