وبينما يكثّف الجيش الإسرائيلي ضرباته للبنية التحتية العسكرية للحزب في البقاع والجنوب، تتصاعد أيضا المؤشرات عن أزمة مالية خانقة تضرب أوصاله من الداخل، لتزيد من حرج موقفه السياسي والعسكري.
مشهد داخلي محتقن: خطاب جريء من الرئاسة
في خطاب لافت بمناسبة عيد الجيش، وضع الرئيس اللبناني جوزيف عون الأمور في نصاب مختلف.
ودعا عون إلى “تسليم السلاح اليوم قبل غد”، مؤكدا حتمية سيادة الدولة اللبنانية، ورافعا سقف الطموحات بتنفيذ الورقة الأميركية عبر عرضها على مجلس الوزراء خلال أسبوع.
وأكد أن السلاح يجب أن يكون حصرا بيد الجيش والقوى الأمنية لاستعادة ثقة المجتمع الدولي بلبنان.
ووجه الرئيس عون رسائل مباشرة لحزب الله، طالبا من “القوى الوطنية” المراهنة على الدولة لا على “المقاومة”، مؤكدا أن المرحلة “مصرية ولا تحتمل استفزازات”، وسط دعوات لإنهاء ما وصفها بـ”الحروب العبثية”.
حزب الله يتمسك بالسلاح.. لكن بأي ثمن؟
في مقابل دعوات الرئاسة، جاء رد حزب الله عبر أمينه العام نعيم قاسم الذي أعاد التأكيد على تمسك الحزب بسلاحه “لأنه يحمي لبنان ويعزز قوة الدولة”.
واعتبر الكاتب والمحلل السياسي بشارة شربل خلال حديثه إلى برنامج “التاسعة” على “سكاي نيوز عربية” هذا الخطاب نوعا من المراوغة، مشيرا إلى أن الرئيس استعاد في كلمته “لياقته الرئاسية” بعد فترة تردد خيّبت الكثيرين.
ويرى شربل أن خطاب عون خرج من الرماديات، ووضع الحزب أمام “مسؤولياته التاريخية” إما بتسليم السلاح ضمن آلية توافقية، أو بالمضي في انتحار سياسي ووطني.
والأهم، وفق شربل، أن الرئيس اللبناني ترك لحزب الله “ثغرة سياسية” عبر تعديلات لبنانية على الورقة الأميركية تُعرض على الحكومة، وتشمل آلية “تزامنية” تبدأ بوقف الاعتداءات الإسرائيلية مقابل خطوات تدريجية لتسليم السلاح.
تصدع داخلي وأزمة مالية غير مسبوقة
إلى جانب الضغوط السياسية والعسكرية، تكشف تقارير عدة من بينها تقرير لصحيفة “إسرائيل هيوم” أن حزب الله يمرّ بأزمة مالية غير مسبوقة، فهناك تأخر في دفع رواتب عناصره، وعائلات القتلى لم تعد تتلقى الامتيازات المعتادة مثل العلاج والتعليم والمساعدات الاجتماعية.
كما أن “القرض الحسن”، الذراع المالية الأبرز للحزب، تلقى ضربات موجعة بعد عقوبات أميركية واسعة، فضلا عن الهجمات الإسرائيلية التي طالت مراكز مالية ولوجستية في الضاحية الجنوبية.
ووفق التقارير، يعاني الحزب من صعوبات في دفع مستحقات مقاولين لترميم مبانٍ مدمرة بفعل الغارات، ما يفاقم الضغوط عليه.
ويؤكد شربل في هذا السياق أن “حزب الله في لحظة ضعف استراتيجي”، معتبرا أن تمسكه بالسلاح في هذا التوقيت “لا يمكن تفسيره إلا بكونه قرارا إيرانيا”، ومرتبطا برغبة طهران في إبقاء ورقة لبنان على طاولة التفاوض مع واشنطن.
الحكومة بين الضغوط والحلول الوسط
الرئاسة اللبنانية تسعى إلى تمرير “فتوى توافقية” تتجنب انفجار الحكومة وتستبقي حزب الله داخل المعادلة التنفيذية، عبر صيغة تسمح له “بالتريث” دون التخلي الكامل عن سلاحه فورا.
لكن شربل يشدد على أن هذا الخيار، وإن كان يُجنب الانهيار الآني، قد لا يُرضي الراعي الأميركي ولا الدول العربية المساندة لسيادة لبنان.
وفي المقابل، ترفض إسرائيل أي انسحاب من التلال المحتلة أو إعادة إعمار القرى الجنوبية دون حسم ملف سلاح الحزب.
ويترجم التصعيد الإسرائيلي عبر غارات مركزة على مواقع استراتيجية، في رسالة واضحة للحكومة اللبنانية بأنها مسؤولة عن بقاء “الدويلة المسلحة” داخل الدولة.
بين الاستحقاق والمأزق: الفرصة الأخيرة؟
لبنان يقف اليوم أمام مفترق حاسم: إما أن تنجح المبادرة الرئاسية في تدشين طريق نحو حصرية السلاح وإنقاذ الحكومة، أو ينزلق البلد إلى فوضى قد تكون غير قابلة للضبط.
ويحذر شربل من “خسارة الفرصة السانحة”، مشيرا إلى أن الاستمرار في الرضوخ للفيتو الذي يفرضه الحزب يعمّق الاحتلال في الجنوب ويعيق إعادة الإعمار ويمنع تدفق الاستثمارات.
الأزمة المالية التي يعاني منها الحزب باتت حديث الأوساط السياسية وحتى الشيعية، فبينما لا تزال قاعدة جماهيرية كبيرة تؤيده، تبرز أصوات شيعية تنتقد مسار الانتحار السياسي الذي يقوده، لا سيما بعد المغامرة “المشؤومة” في حرب الإسناد، والتغيرات الإقليمية الجارية في سوريا والمنطقة.
وشدد شربل خلال حديثه على أن لبنان لا يمكنه الاستمرار “رهينة لفئة ضمن طائفة”، وأن المجتمع الدولي والعربي، ومعظم اللبنانيين، يريدون دولة لا دويلة، وسلاحا شرعيا لا موازٍ.
وتابع قائلا: “على الرئيس اللبناني أن يكمل مبادرته، حتى لو بقي حزب الله متمسكا بالسلاح، لأن السردية القديمة لم تعد تقنع أحدا”.
المرحلة المقبلة ستكون اختبارا لقدرة لبنان على الخروج من نفق السلاح والانقسام، فإما أن تفتح بوابة الدولة، أو أن يظل البلد غارقا في أزماته ومحروما من أبسط مقومات السيادة والازدهار.