في قلب دمشق القديمة، حيث تلتقي الأزقة ببعضها كقصائد عشق وتتعانق الحجارة العتيقة بأسرار مئات السنين، ينبعث سوق “البزورية” كقصيدة عتيقة ما زالت تُلقى على مسامع الزمن.

سوق ليس كباقي الأسواق، بل هو أحد أكثر أحياء الشام رهافة وثراء في الذوق والرائحة والذاكرة؛ إنه معرض مفتوح للحنين، وأرشيف حي لنمط الحياة الدمشقي التقليدي، يعبق برائحة اليانسون والقرنفل، وتلمع فيه دكاكين التوابل ككنوز باذخة في سرداب من الضوء والتراث.

مجرى العطر في شرايين دمشق

يقع سوق البزورية في الحي الجنوبي من الجامع الأموي الكبير في حضن معماري يشع بعبق التاريخ، وعلى بعد خطوات معدودة من قصر العظم، ذاك القصر الدمشقي الذي يشهد على أن الجمال يمكن أن يشيد حجرا على حجر، وبين هذين المعلمين ينساب السوق كجديلة من العطر أو كشريان ذهبي يشق قلب دمشق القديمة، فيبث فيها دفء الذاكرة وحرارة الحياة.

وإن نظرت إلى البزورية من علٍ، رأيته كما لو كان شريانا نابضا في الجسد الدمشقي، يتفرع منه نبض الحرفيين، ويفيض عليه ضوع العطارين، ويتدفق فيه الزوار والسائحون كأنهم خلايا ذاكرة تبحث عن أصلها؛ ضيق هو بعرضه لكنه رحب كما السماء في عمقه، فسيح بألوانه، غني بروائحه التي تسبق خطاك، وتداعب وجدانك قبل أن تلامس قدماك أرضه الحجرية المصقولة بالزمن.

تسير فيه فتشعر أن الخطوة ليست مجرد انتقال في المكان، بل هي غوص في طبقات الزمان، حيث كل دكان نافذة على قرن مضى، وكل رائحة تعويذة حية من العصور الدمشقية الغابرة. المارة فيه لا يمرون وحسب، بل يتبادلون نظرات المحبة والدهشة، كأن السوق ليس مكانا للبيع والشراء، بل مسرحا تتجدد فيه الطقوس اليومية لحياة تعرف كيف توازن بين الرزق والبهجة، وبين القوت والجمال.

وفي زاوية منه، تتدلى القناديل النحاسية المذهبة كما لو كانت نجوما دمشقية تعكس وهج المدينة، وعلى جدرانه تتراكض الظلال القديمة للنساء اللواتي جئن قبل قرن ليشترين حبوب الكمون أو زهر البنفسج، وللرجال الذين كانوا يحمّلون البغال بالبضاعة وعيونهم تحكي القصص قبل ألسنتهم.

البزورية، في موقعها، ليست مجرد صلة وصل بين أماكن، بل هي وحدة عضوية بين الدين والتاريخ والتجارة، بين الجامع الأموي بروحانيته، وقصر العظم برفاهه، والسوق ببساطته العريقة؛ مثل وتر ثالث في آلة موسيقية دمشقية، لا يكتمل اللحن إلا به، ولا تعزف ذاكرة المدينة إلا إذا عزفته.

من البزور إلى الذاكرة.. تسمية لها جذور

تعود تسمية السوق إلى “البزور” أي البذور، حيث كانت الدكاكين منذ القدم تعرض كل ما يتعلق بالأعشاب والتوابل والبخور وبذور النباتات الطبية والعطرية، التي استخدمت في الطب والصيدلة وكذلك في الطقوس المنزلية والمعتقدات الشعبية، وتحولت التسمية مع الوقت إلى رمز للمكان، حتى باتت كلمة “البزورية” عنوانا ينطق برهافة حين يذكر العطر والطب والذاكرة.

أسواق في سوق.. فن التخصص الدمشقي

ما يدهشك في البزورية، بل ما يسحرك ويربك إدراكك، أن كل صف فيه كأنه سوق قائم بذاته، ينهض على فلسفة خفية لا تراها العين ولكن تدركها الروح؛ تسير بين جنباته، فتجد نفسك كل بضع خطوات تنتقل من عالم إلى آخر وكأنك تتنقل بين عوالم متوازية في حي واحد.

في جهة “دكاكين الطيب” تصطف كخلايا العسل، تعرض في واجهاتها الزجاجية قوارير العطر كأنها قناديل صغيرة تسكنها الأرواح؛ ماء الورد، وزيت الياسمين، وزهر البرتقال، والعنبر، والمسك؛ تشتمها فتشعر أن الزمان قد توقف قليلا ليمنحك لحظة دهشة.

وعلى الجهة الأخرى، “محلات الأعشاب”، تلك التي تغدو فيها الأوراق اليابسة والأغصان العتيقة لغة بديلة للشفاء والرجاء، تعلوها لافتات متهالكة، لكن داخلها يفيض بالحكمة؛ مردقوش للمعدة، بابونج للصداع، زعتر للصدر، وعرق السوس الذي يروى عنه ما لا يروى، والبائع فيها لا يكتفي ببيع الأعشاب، بل يحفظ وصفات الجدات ويفك شفرة الأوجاع بالألفة والتجربة كطبيب لا يحمل شهادة، لكنه يحمل تاريخا.

ثم تنعطف قليلا فتجد “باعة الحلويات التقليدية”، الذين لا يبيعون السكر فحسب، بل يبيعون الحنين ملفوفا بورق ملون؛ في واجهاتهم ترتب “راحة الحلقوم” بألوانها الزهرية والبيضاء كالمرمر والمبرومة والغريبة، وحلاوة الجبن التي يلتف حولها العابرون كما يلتف القلب حول الذكرى، وتسمع أصوات الأولاد وهم ينادون أمهاتهم: “بدي من هديك يا ماما”، كأن الطفولة قد نصبت خيمتها في هذا الركن إلى الأبد.

وفي زاوية خفية لا يكتشفها إلا العارفون، تنتصب “مخازن العطور والبخور” كمحاريب صغيرة تفوح منها روائح السكينة، ترى فيها أوقيات من اللبان العربي، وقطع العنبر الخام، وعود الهند الثمين، وخلطات البخور الخاصة التي لا تفصح عن أسرارها إلا للزبائن المقربين؛ ثمة رائحة تشبه لحظة دعاء في محراب، أو همسة أم على جبين طفلها النائم، تمتزج كلها وتغزل نسيجا روحانيا لا يشترى بالمال.

كأن المكان خارطة فنية، تتوزع فيها الحرف كألوان الفسيفساء، تنبض كل قطعة منها بحكاية، وكل حكاية منها تنتمي إلى زمن مختلف. في البزورية، كل متجر هو سردية بصرية ومكانية، وحياة كاملة تنتظر من يقرأها؛ فثمة حكاية جد عمل بيديه عقودا حتى سوى القوارير، وثمة قصة امرأة صنعت خلطات الأعشاب كما تصنع القصائد، وثمة حرفي لم ير المدرسة يوما لكنه يعلمك درسا في الصنعة والحكمة والوفاء للمهنة.

إنها ليست محال تجارية فحسب، بل ورشا صغيرة للذاكرة، حيث تنتقل المهارات من جيل إلى جيل كما تنقل الذاكرة، لا تكتب في الكتب، بل تهمس في الآذان وتعلم بالأيادي، وتخبأ في النظرات.

ففي هذا السوق تتآخى الروائح في ود لا يفتر، يهاجمك عبق القرفة ممزوجا باليانسون، وتحف بك نكهة الميرمية، وتنتعش أنفاسك برائحة العرقسوس، لا يمكن أن تمر بالبزورية دون أن تصاب بحالة حسية غريبة؛ حالة تجذبك نحو ماض لم تعشه لكنه يسكنك كأنك ولدت فيه، فالرائحة هنا ليست توابل فحسب، بل شفرة ذاكرة.

ويكتسي السوق في مواسم الأعياد بثوب آخر؛ إذ ترص الحلوى الشرقية بعناية كأنها قلائد من ياقوت؛ الملبس، الراحة، السكاكر، حلاوة الجبن.. يقبل الدمشقيون من كل مكان لشراء مؤونة العيد، فتتحول البزورية إلى كرنفال شعبي، تختلط فيه الضحكات بأصوات النداء، وتعلق الزينة على أبواب المحلات كأن السوق عروس تزف إلى فرح جديد.

حراس البذور.. التجار بين الماضي والحاضر

إن أصحاب المحلات في البزورية ليسوا مجرد باعة، إنهم حراس التراث الدمشقي؛ يحفظون أسرار الخلطات، يعرفون كيف يميزون الغش من الأصل، ويتعاملون مع التوابل كما يتعامل الخطيب مع اللغة؛ باحترام ودهشة وحنكة، يقول أبو نزار، الذي ورث دكانه عن جده منذ أكثر من 50 عاما، “الزنجبيل له قلب، واليانسون له مزاج، ونحن نحاور هذه النباتات، لا نبيعها فقط”.

ولقد لعبت البزورية دورا أصيلا في الطب الشعبي الدمشقي، إذ اعتمد الناس لعقود على أعشابها في معالجة الأمراض، قبل أن تغريهم الأدوية الكيميائية، ومن هنا كان الطبيب الشعبي “الحكيم” يشتري أعشابه من البزورية، ويصف للناس ما يوافق أمزجتهم، لا أعراضهم فقط؛ فالزعتر هنا دواء للصدر، والبابونج بلسم للأعصاب، والمردقوش مفتاح للنوم الهانئ.

صراع الأصالة والحداثة.. هل يبقى العطر حيا؟

ومع تبدل الأزمنة وتغيّر أنماط التسوق، باتت البزورية تواجه تحديات الحداثة: مراكز تجارية عملاقة، وتسوق إلكتروني، وتوابل مغلفة ومستوردة، رغم ذلك كله لا تزال البزورية تقف شامخة، لها سطوتها وهيمنتها وكأنها تقول للعالم “أنا ذاكرتكم المعبقة، أنا أم الحواس، أنا السوق الذي لا يشيخ”.

الرواد الذين يقصدونها ليسوا فقط من أبناء دمشق، بل حتى السياح يأتون من كل صوب ليعيشوا التجربة، ليتصوروا في السوق، ليشتروا قطعة من الماضي المجيد، قنينة عطر شرقي، أو كيس زعفران دمشقي أصيل.

فالبزورية ليس مجرد سوق، بل لغة من لغات دمشق، يتكلمها الحجر والبائع، والذاكرة والضوء، هو قصيدة من الزمن العربي الجميل، تسير فيها وكأنك تسير بين أبيات المتنبي أو في بستان لأبي العتاهية؛ مدينة داخل المدينة، زمن متجمد في زجاجات عطر، ومساحيق عتيقة، وقلوب لا تزال تنبض بالشام كما كانت.

في زمن العولمة والسرعة، تظل البزورية ملاذا للبطء المقدس، للتأمل، وللحنين؛ هي قلب دمشق حين أراد أن يتكلم؛ فتكلم بعطر لا ينسى.

شاركها.
اترك تعليقاً