دمياط ثغر من ثغور مصر القديمة، تقع على الشاطئ الشرقي لفرع النيل الذي يحمل اسمها، ويفصل بينها وبين مصب هذا الفرع في البحر الأبيض المتوسط مسافة لا تتجاوز 15 كيلومترا.

وتضرب مدينة دمياط بجذورها في أعماق التاريخ، وقد وردت في الكثير من المصادر التاريخية، وكُتب علماء المصريات، ومؤلفات الرحّالة والمستشرقين، وكان لها حضورها -كذلك- في مكتبة المجلس الأعلى للآثار المصرية وإصداراته التي تناولت تاريخ المدينة ومعالمها الأثرية، بجانب مؤلفات الباحثين والكُتّاب في العصر الحديث.

تاريخ دمياط وأصل تسميتها

ويدلنا الدكتور جمال الدين الشيال، في كتابه “مُجمَل تاريخ دمياط: سياسيًّا واقتصاديًّا”، والصادر بالقاهرة في عام 2000، أن دمياط مدينةٌ عريقة في القِدم، ذُكرتْ في التوراة باسم “كفتور”، وعُرفتْ في العصر اليوناني باسم تامياتس (Tamiatis)، وفي العصر القبطي باسم تاميات (Tamiat) أو تامياتي (Tamiati)، ويقال إن معنى هذا اللفظ في اللغة المصرية القديمة: الأرض الشمالية أو الأرض التي تُنبِت الكتان.

وقد ورد ذكر دمياط في كتابات الكثير من الرحّالة والمستشرقين الذين جالوا قديما بين ربوع مصر، حيث ذكرها عالم المصريات والجغرافي الفرنسي هنري جوتييه في قاموسه فقال: إن اسمها المصري القديم (‏meht) ومعناه بلد الشمال، فيما أطلق عليها الروم اسم تمياتيس (Tamiathis)‏ وأسماها الأقباط اسم (Temiat) ومنها اسمها العربي دمياط، وقال العالم الفرنسي إميل أميلينو في جغرافيته إن اسمها القبطي (Tamiati) واسمها اللاتيني (Damiette)‏.

وفي كتاب “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”، لمؤلفه محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الحسني الطالبي، المعروف بالشريف الإدريسي (ت: 560هـ/1166م)، ورد اسم دمياط بالذال في أولها، وجاء في الكتاب أنها “مدينة على ضفة النهر ويُعمل بها الثياب النفيسة”.

ويُقال إن دمياط الأصلية كانت تقع في الجهة الشمالية من دمياط الحالية ونقلت إلى مكانها الحالي من سنة 633هـ/1236م.

ويذكر المؤرخ تقي الدين المقريزي، الذي لقب بمؤرخ الديار المصرية، وشيخ المؤرخين، أن سبب تسمية دمياط بهذا الاسم يرجع إلى دمياط بن أشمن بن مصرايم بن بيصر بن نوح عليه السلام، وقيل إن أصلها كلمة سريانية أصلها دمط أي القدرة، إشارة إلى مجمع العذب والملح، وقيل إنها بلد قديم بني في زمن قليمون بن اتريب بن قبطيم بن مصرايم على اسم غلام كانت أمه ساحرة لقليمون.

ووصف المؤرخ والتربوي المصري علي باشا مبارك، مدينة دمياط بأنها مدينة تمتد من الشمال إلى الجنوب بطول 1650 مترا وعرضها 650 مترا، وبها من المنازل نحو 5800 منزل، وأبنيتها بالآجر والمونة والبعض بالحجر، وكثير منها على 3 أو 4 طبقات، وبها نحو 45 مسجدا، وعدد أهلها 35 ألف نفس، طباعهم تميل إلى الرقة والرفاهية وحسن المعاشرة سيما للأجانب.

دمياط عبر العصور

ونتعرف من المصادر التاريخية، على أن دمياط بعد أن خضعت لحكم المسلمين خلال الفتح الإسلامي لمصر، ولما لم تشأ الدولة البيزنطية أن تنسى أنها فَقدتْ بخروجها من مصر خير أملاكها، فقد ظلَّت قرونًا طويلة تغير على شواطئ مصر الشمالية بأساطيلها؛ عساها تستطيع استردادها، وهنا كانت دمياط موقعا للكثير من الحروب وبقيت تقاوم محاولات الغزو الأجنبي على مدار زمن طويل.

وبحسب المؤرخين، فقد ازدهرت دمياط في العصر الفاطمي، وأخذت مكان الصدارة بين موانئ مصر الشرقية.

ولعل أكبر الدوافع التي دفعت الفاطميين للعناية بثغر دمياط أنه كان مركزًا مهمًّا لصناعة النسيج، وتحيط به وتتبعه مدنٌ وقرى كثيرةٌ كلها مراكز لصناعة النسيج أيضًا؛ فقد كانت مصر تنقسم إداريًّا وقتذاك إلى كُوَر (واحدتها كورة)، وهي ما يقابل المديرية أو المحافظة في مصطلحنا الحديث.

وكان الجزء الشمالي الشرقي من مصر يُكوِّن كورةً كبيرة واحدة تسمى “كورة تنيس ودمياط”، وقد تكوّنت كما يتبين من اسمهما من مركزين مهمين هما: تنيس ودمياط، حيث كانتا تتناوبان في احتلال الصدارة بين مدن هذه الكورة، إلى أن ضعف شأن تنيس وتلاشت في العصر الأيوبي؛ فأصبحت دمياط هي المدينة الأولى بين مدن هذه الكورة.

خريطة مدينة دمياط على الساحل المصري

وفي العصر العثماني، ازدهرت دمياط بعض الشيء لكونها أقرب الموانئ المصرية إلى آسيا الصغرى، ولكنها لم تستعدْ مكانتها الأولى، وقد عانت دمياط -كما عانت مصر كلها في ذلك العصر- من اضطراب الأحوال وكثرة الفتن، وقد ظلَّت دمياط منفى للأمراء الثائرين.

وخلال الحملة الفرنسية على مصر، أثبت علماء الحملة في أبحاثهم أن دمياط ثاني مدينة في القُطر المصري بعد القاهرة من حيث عدد السكان، حيث قاموا بإحصاء السكان في مدن القطر المهمة، وتبين لهم أن عدد السكان بالقاهرة 263 ألف نسمة وأن عدد سكان دمياط 30 ألفا؛ وكانت رشيد هي الثالثة وعدد سكانها 13 ألفا، أما الإسكندرية فكان عدد سكانها 8 آلاف نسمة فقط؛ ولهذا عُني الفرنسيون بدمياط عنايةً خاصة.

وفي كتاب “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار”، يقول المؤرخ شهاب الدين أحمد بن فضل الله العمري:

“دمياط مدينة على ضفة البحر… مدينة لطيفة فيها مدرسة واحدة وأسواق ليست بالكثيرة ومنها الإفضاء إلى بحيرة تنيس المذكورة في القديم بحسن الأوضاع، وجودة القماش والمتاع… وبدمياط وما يليها شجر الموز الكثير، ومنه مدد مصر والقاهرة… ويقال إن المسيح عليه السلام دخلها، فأكرمه أهلها. فدعا أن يبارك الله لأهلها فيها، وأن يأتيها الرزق في كل مكان”

وجاء في كتاب “تاريخ دمياط منذ أقدم العصور”، لمؤلفه نقولا يوسف، والصادر عام 1959:

“لقد كان لهذه المدينة شأنها منذ كانت… موقعها الفذ… على فم البحر، وعلى ضفاف النهر، وعلى صيحة من البحيرة. ثم أحداث الدنيا التي مرت بها، والتاريخ الذي تاه معها في مسارب الزمان، وراء غبار الأجداد، ليس تاريخها هي، وإنما تاريخ مصر كلها، بل وتاريخ العالم بأسره، فقد كانت هذه المدينة تصنع التاريخ في يوم ما، وكانت تصدره أيضا فيما تُصدر من الكتان، والبردي، وخيرات عقول أبنائها، وما يجود به البحر والنهر والبحيرة”

موقع إستراتيجي ومعلم ثقافي

وجاء أيضا أن دمياط ظلت عاصمة من عواصم المال والمعرفة، وتميزت بفنونها وعمارتها، ثم تزاحمت معارك التاريخ على أبوابها.

ويؤكد الكتاب على أن دمياط -كانت منذ القدم- ولم تزل -على صلة قوية دائمة بالعالم.. بحرا ونهرا وبرا.. فهي لقربها من البحر الأبيض المتوسط عند مصب النيل تعد ثغرا بحريا تصلها المراكب بسائر الموانئ، كما تعد ثغرا على ضفة النيل الذي يصلها بداخل الإقليم المصري.

كما بيّن نقولا يوسف في كتابه “تاريخ دمياط منذ أقدم العصور”، أن هذا الموقع الجغرافي الفذ، الذي وفر لها تلك الميزات، وجعل منها مدينة حية على مدى الأجيال، كان أيضا سببا في كثير من المتاعب التي تعرضت لها حين كانت محطا لأنظار الغزاة والمغيرين، فوقعت -مرارا- فريسة الغزو والحصار، والنهب والتخريب.

lighthouse at Ras El Bar ,Damietta,Egypt

ولعل تلك الغزوات كانت سببا في ذيوع صيتها والاهتمام بتاريخها، فقلما نجد سفرا من أسفار التاريخ، أو موسوعة في أي لغة، أو دليلا للسياحة يخلو من ذكرها.

وفي كتاب “دمياط في التاريخ الحديث”، والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يقول مؤلفه الدكتور راضي محمد جودة، الذي يؤرخ عبر صفحات كتابه لتاريخ دمياط خلال الفترة من عام 1810 حتى عام 1909: إن تاريخ مدينة دمياط قد نال قدرا كبيرا من اهتمام الدراسات الأكاديمية في التاريخ الإسلامي وفي العصرين المملوكي والعثماني وبدايات القرن العشرين، وإنها كانت تُعد أهم مدينة تجارية وصناعية في مصر بعد العاصمة (القاهرة) في نهاية العصر العثماني حتى بداية عشرينيات القرن التاسع عشر.

ولم يفُت من قاموا بالتأريخ لدمياط في العصور المختلفة من الباحثين والكُتّاب المُحدثين، أن يجمعوا سِيَر المشاهير من أهل دمياط في العصر الحديث، ويأتي كتاب “دمياط في التاريخ الحديث”، ثم كتاب “أعلام ومشاهير دمياط”، لمؤلفه الدكتور محمد عبد السلام، من بين المؤلفات التي سردت سير عدد كبير من المشاهير الذين خرجوا من دمياط، وحققوا نجاحات في مجالات مختلفة من العلوم والفنون والآداب، مثل “بنت الشاطئ.. عائشة عبد الرحمن”، وزكي نجيب محمود، ورياض السنباطي، وطاهر أبو فاشا، وشوقي ضيف، وفاروق شوشة، ومحمد حسن الزيات، وعبد الرحمن بدوي، ولطيفة الزيات وغيرهم.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الخليج مباشر. جميع حقوق النشر محفوظة. تصميم سواح سولوشنز.