في زمن تقاس فيه الحياة بعدد النقرات على مفاتيح الأجهزة الذكية، وتختزل فيه الأحلام في المقاطع المصغرة والممنتجة، يلح علينا السؤال الأزلي: لماذا نكتب؟ هل نكتب لنُخلد التاريخ أم لنفرغ ما عبأتنا به الأيام؟ لنعلق على هامش الوجود أفكارنا ومشاعرنا أم لننزع الأقنعة عن وجوهه العابسة والمرهقة؟

الكلمات ليست حروفاً تُسرد، بل دماء تُنزف على مذابح الحقيقة والوهم.

فالإنسان يموت، والأزهار تذبل، وأوراق الأشجار تتساقط، والنجوم تنفجر، لكن الكلمات تبقى ما بقي الزمان.

منذ ألواح سومر وحتى منصات الرقمنة، بقي الكاتب هو الشاهد والمتمرد، يكتب لأن اللغة لا تنسى، ولأن الورقة لا تخون، ولأن السطر الواحد قد يصير دواءً أو سلاحاً. وحين يرفض العالم أن يصغي تكون الكتابة هي الصرخة في وجه العدم.

ألم يقل كافكا: «الكتابة شكل من أشكال العبادة»؟

في عصر التسطيح، وحيث تباع العقول بالجملة، تصير البلاغة مقاومة بثورتها، وعندما تتحول اللغة إلى «ميمات» و«هشتاغات» ينهض الكاتب ليكسر القوالب ويفتت صنمية اللحظة، فجملة واحدة من كلماته ربما تعيد تعريف الجمال، أو تؤثر في مناخ غير عادل… ربما تضيء أملاً أو تنبش جرحاً.

هل كان غابرييل غارسيا ماركيز يخترع الواقع السحري أم كان يكشف السحر الكامن في واقعنا المهمل؟ إذ ليس كل كاتب نجماً لامعاً، بعضهم مصباح يضيء زاويةً مظلمةً في قبو العالم، أو شمعة تنصهر على طاولة تلميذ حياة. هم (قبس من النور) الذي يضيء ما انطفأ من الوعي الجمعي. بكلمة واحدة يذكروننا بإنسانيتنا، يذكروننا بأننا بشر… نتنفس، ننزف، نحب، نحلم، ونرتعش. أليست هذه هي الرسالة الأخيرة لفيرجينيا وولف في «الأمواج»: «لا شيء كاملاً، لكن كل شيء عميق»؟

إلى كل قارئ أقول: عليك أن تجد الكاتب الذي يشعل النار في عقلك، لا الذي يعبئه بالغبار.

وتذكروا أن التاريخ لا يحفظ أسماء الذين رفضوا «كانط» أو أحرقوا «نيرودا»، بل يذكر أولئك الذين منحوا للكلمة أجنحة.

الكتابة ليست مهنة، بل هوية.

فهل نجرؤ على أن نكون من أهلها ونتحمل مسؤوليتنا نحوها؟

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
اترك تعليقاً