بحلول عام 2049 ستكون جمهورية الصين الشعبية قد أتمت المئة عام الأولى على تأسيسها بعد اندلاع الثورة الصينية بقيادة الزعيم الشيوعي ماو تسي تونغ عام 1949. الثورة التي أنهت قرنا كاملا من التدخلات الأجنبية يسميه الصينيون “قرن الإهانة”، ابتداء من حرب الأفيون 1839 التي كانت فاتحة لمئة عام أو يزيد من الهزائم التي أدمت جسد الصين، وألقت بها في مهاوي التخلف والتراجع، بعد أن كان الصينيون يرون أنفسهم “مركز العالم” و”بؤرة النور” التي تنطلق منها العلوم والحضارة والفنون.
ويكتسب عام 2049 أهمية خاصة في الخطاب السياسي الصيني وفي الخطط الإستراتيحية للدولة، وهو العام الذي من المفترض أن ينتهي فيه إنجاز أهداف مبادرة “الحزام والطريق” التي تعد أداة الصين الرئيسية لاكتساب الحضور والنفوذ في المسرح العالمي، ومن ثم يذهب كثير من الباحثين إلى أن 2049 سيكون نهاية “قرن الانطلاق” الصيني وبداية “قرن الهيمنة”، أو على الأقل فإن الصين تخطط لذلك.
ويتسق هذا مع ما بشر به الرئيس الصيني، شي جين بينغ، بعد أشهر من توليه الرئاسة في مارس/آذار 2013، حينما أعلن عن دخول الصين حقبة جديدة، أطلق عليها اسم “الحلم الصيني”، رافعا شعار “التجديد العظيم للأمة الصينية”. وقد تمثل حلم “شي” في إستراتيحية قومية جديدة تؤهل لصعود الصين بوصفها دولة مزدهرة وقوية، لينافس الحلم الصيني الوليد “الحلم الأميركي” القديم الذي يعتبرونه آخذا في الأفول جنبا إلى جنب مع القوة الأميركية.
ويشير تقرير، أعده “معهد بروكينغز” الأميركي للأبحاث عام 2020، إلى أن الصين تسير بخطى واثقة نحو تحقيق رؤيتها لعام 2049، خاصة فيما يتعلق بأن تصبح قوة اقتصادية رائدة على مستوى العالم، ويفيد التقرير أن الطموح المتزايد لبكين يدلل في الوقت ذاته على أن الصين لم تعد تقبل بلعب دور إقليمي داعم داخل النظام الدولي الليبرالي كسابق عهدها، بل تتطلع اليوم لمنافسة الزعامة الأميركية العالمية.
لكن طموح بكين لا يتوقف عند التفوق الاقتصادي فحسب، بل ثمة مؤشرات على أن طموحها يمتد ليشمل الجانب العسكري أيضا، هذا ما أشار إليه تقرير نشرته “مؤسسة كارنيغي” للسلام الدولي عام 2020، إذ تناول محاولات بكين فرض النفوذ على الممرات المائية قبالة سواحل الصين، وهو ما وصفه التقرير بتطلعات جيوسياسية تسعى من خلالها بكين إلى اتخاذ تفوقها في محيطها الإقليمي ليكون بمثابة نقطة ارتكاز تنطلق منها لتصبح قوة رائدة عالميا. وهذا إلى جانب مساعي السيطرة على صناعات التكنولوجيا الفائقة، وخطوات ثابتة نحو بناء تحالفات سياسية ودبلوماسية حول العالم لمنافسة نظام التحالفات الذي أسسته الولايات المتحدة الأميركية في عقود هيمنتها المنفردة.
فإلى أي مدى يمكن للطموح الصيني أن يكون واقعا؟ وما أدوات الصين لتحقيق طموحها في الهيمنة عسكريا ورسم ملامح “القرن الصيني”؟
محاكاة الصعود الأميركي.. إعادة دورة التاريخ
ثمة اعتقاد سائد لدى المنظرين الأميركيين بأن الصين تسعى لمحاكاة قصة الصعود الأميركي. فكما هيمنت الولايات المتحدة ابتداء على محيطها الإقليمي في منطقة الكاريبي في القرن الثامن عشر، ثم انطلقت منه إلى الهيمنة العالمية، تريد الصين أن تبدأ مسار صعودها، كذلك، بالهيمنة على بحر الصين الجنوبي.
وليست فقط محاكاة إستراتيحية، بل أيضا محاكاة في بناء مفردات القوة، حيث تسعى الصين إلى تحقيق توازن في ميزان القوى مع الولايات المتحدة، من خلال امتلاك نظائر مماثلة لكافة عناصر القوة العسكرية الأميركية، بما في ذلك الطائرات المقاتلة، وحاملات الطائرات، والأقمار الصناعية العسكرية، وحتى الأسلحة النووية والسيبرانية.
وفي إطار تحقيق هذا الهدف، تعمل الصين على تطوير “ثالوث نووي” مماثل لأنظمة القوة النووية متعددة الأبعاد التي تمتلكها الولايات المتحدة، والتي تمتاز بقدرتها على إطلاق صواريخ باليستية برا وبحرا وجوا، بما يسهم في تحقيق ردع نووي فعال في حالات النزاعات العسكرية.
وفي يناير/كانون الثاني الفائت، نشر اتحاد العلماء الأميركيين تقريرا مطولا يناقش فيه التوسع النووي الصيني، الذي وصفه بأنه أحد أكبر حملات التحديث بين الدول التسع المسلحة نوويا. ويكشف التقرير عن الوتيرة المتسارعة التي تنتهجها الصين لتعزيز ترسانتها النووية بشكل يتجاوز توقعات المسؤولين الأميركيين، الأمر الذي ينبئ ببداية عصر جديد للتسلح النووي، وهو ما حذر منه التقرير السنوي الذي تعده وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) حول القوة العسكرية الصينية، ونُشر في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2023.
والأهم، بحسب التقرير الأخير، أن بكين لم تقتصر على تعزيز قدرات جيش التحرير الشعبي وفقا لاستراتيجيتها المعلنة في إطار “الدفاع عن النفس”، بل تجاوزت ذلك بكثير، حيث يُعتقد أنها ركزت على تحليل نقاط الضعف في نظام العمليات الأميركي، وقامت بتطوير أنظمة مصممة لمهاجمتها.
الاستعداد للسيناريو الأسوأ: الحرب النووية!
كان التهديد بالسلاح النووي هو الورقة الرابحة التي استخدمتها الولايات المتحدة ضد الصين في أكثر من نزاع فائت، أشهرها أزمة تايوان التي اندلعت بين عامي 1954 و1955، وتعرضت على إثرها الصين إلى ضغوط دولية وتهديدات من قبل الولايات المتحدة الأميركية باستخدام الأسلحة النووية.
لكن المفارقة كانت أن هذه التهديدات مثلت نقطة تحول رئيسية في تاريخ الإستراتيحية العسكرية الصينية، إذ دفعت الرئيس الصيني حينذاك، ماو تسي تونغ، إلى الاقتناع بأن الصين لن تكون قادرة على حماية نفسها وحفظ أمنها القومي دون حيازة أسلحة نووية، ونتيجة لذلك جاء الإعلان الأول عن طموحات الصين النووية عام 1955.
وفي أكتوبر/تشرين الأول من عام 1964، أجرت جمهورية الصين الشعبية أول تفجير لسلاح نووي، لتصبح بذلك الدولة الخامسة التي تنجح في تطوير أسلحة نووية بعد الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي والمملكة المتحدة وفرنسا.
ولا زالت الصين إلى اليوم تسعى لتعزيز ترسانتها النووية دون توقف، ففي عام 2019 أصدر “معهد بروكينغز” الأميركي للأبحاث تقريرا يتنبأ بتصاعد المنافسة النووية بين الولايات المتحدة والصين في السنوات القادمة، ورأى التقرير أن هذا التطور قد يحد من قدرة الولايات المتحدة على تقليل الأضرار في حال نشوب حرب نووية شاملة مع الصين.
وتشير التقديرات الحالية إلى أن الصين بين عامي 2014 و2024 ضاعفت العدد التقديري للرؤوس النووية من 250 إلى حوالي 500 رأس. ووفقا لتقارير صادرة عن وزارة الدفاع الأميركية، من المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى حوالي 700 رأس نووي بحلول عام 2027، و1000 بحلول عام 2030، ثم يتجاوز 1500 بحلول عام 2035.
وعلى ما يبدو فإن جهود الردع النووي الصينية قد تركزت أغلب العقود الفائتة على تطوير تكنولوجيا أنظمة الصواريخ الباليستية الأرضية. ولأن التوسع في هذه الترسانة كان بحاجة إلى المزيد من حقول صوامع الصواريخ، توسعت الصين بين عامي 2020 و2021 في بناء 350 صومعة صاروخية جديدة تعمل بوصفها منشآت لإطلاق الصواريخ الباليستية الأرضية عوضا عن الشاحنات المتنقلة على الطرق والتي سادت لفترة طويلة خلال العقود الفائتة. هذا ما رصدته صور الأقمار الصناعية مفتوحة المصدر بحسب تقرير اتحاد العلماء الأميركيين الذي نُشر في بداية عام 2024.
“رياح الشرق” الصينية.. أكثر ما يؤرق الأميركيين
في ثمانينات القرن الماضي، بدأ الجيش الصيني بناء قوتة العسكرية التي ضمت أكثر من 1200 صاروخ باليستي قصير ومتوسط المدى، يمكن لها أن تصل للقواعد الأميركية الموجودة في تايوان.
لكن ليست تايوان وحدها هي معضلة الصين، حيث يعتقد الجيش الصيني أن الولايات المتحدة تمتلك خط دفاع ثانيا شرق اليابان، وهي جزيرة غوام، التي تضم قاعدة “أندرسون” العسكرية الأكثر أهمية للجيش الأميركي بالمحيط الهادئ، بينما كان الجيش الصيني يفتقر إلى صواريخ ذات مدى طويل لعبور 1900 ميل للوصول إلى غوام، باستثناء بضع مئات من الرؤوس الحربية النووية.
في 2015، أحدث الجيش الصيني نقلة نوعية في ميزان القوى بالكشف عن امتلاكه صواريخ “دونغ فينغ-26″، والتي تتميز بمدى يقدر بـ1900 إلى 2500 ميل بحري (ما بين 3 آلاف و4 آلاف كيلومتر)، وتعني “دونغ فينغ”: رياح الشرق.
وفي عام 2016، أصدر البنتاغون تقييما مفاده أن الصاروخ الباليستي متوسط المدى دونغ فينغ -26 الذي طورته بكين سيكون قادرا على تنفيذ هجمات تقليدية ونووية، بدقة عالية، ويمكنه إصابة أهداف أرضية أو بحرية غرب المحيط الهادئ.
وفي تقرير صدر في يوليو/تموز 2017 عن مركز الأمن الأميركي الجديد، قام المؤلفان، توماس شوغارت وخافيير غونزاليس، بمحاكاة هجوم صيني استباقي على القواعد الأميركية في اليابان باستخدام هذا النوع من الصواريخ، ووجدا أن النتائج ستكون مدمرة، حيث يمكن أن “تتعرض جميع المقرات الرئيسية الثابتة والمنشآت اللوجستية للقصف”، وأيضا “قصف كل السفن الأميركية تقريبا الموجودة بميناء اليابان بالصواريخ الباليستية”.
كما أن محاكاة شوغارت وغونزاليس توصلت إلى أن معظم المدارج العسكرية ستنهار بالهجوم في حال حدوثه؛ ما يؤدي فعليا إلى إعاقة القوات الجوية الأميركية باليابان.
وفي عام 2020، لعب دخول الصاروخ “دي إف-41 (DF-41)” الخدمة دورا بارزا في تعزيز ترسانة الصواريخ النووية الصينية، إذ يعد واحدا من الصواريخ ذات النطاق الأطول في العالم بمدى يتراوح بين 12 ألف و15 ألف كيلومتر، وتشير بعض التقديرات إلى أن “دي إف-41” يمكنه حمل ما يصل إلى 10 رؤوس حربية، لكن وزارة الدفاع الأميركية تقدر أن بإمكانه حمل 3 رؤوس حربية فقط. ومن ثم يضاهي قدرات الصاروخ الأميركي العابر للقارات الأشهر “مينوتمان 3″، وهو صاروخ يعمل بالوقود الصلب ثلاثي المراحل، يصل مداه إلى 13 ألف كيلومتر، وبإمكانه حمل ما يصل إلى 3 رؤوس نووية.
سور الصين العظيم.. هذه المرة تحت الماء!
يسود اعتقاد لدى الصينيين أن مأساة “قرن الإهانة” الصيني كانت ناجمة عن ضعف القوة البحرية الصينية، فلم تُهاجَم الصين إلا بحرا، ولم تُهزم إلا من قوى آتية عبر البحر، كما حدث مع الأسطول البريطاني في حرب الأفيون، بينما استطاعت إلحاق الخسائر بخصومها عندما كانت المواجهات على البر. ومن ثم تُولي الصين أهمية قصوى بتطوير ترسانتها البحرية، خاصة أن القوة الرئيسية المهيمنة على العالم الآن هي قوة بحر بالأساس.
ولعقود سابقة، كافحت الصين من أجل مضاهاة الأسطول الأميركي الأقوى والأكثر تطورا في العالم، ففي البدء كانت الغواصات الصينية الصاخبة سهلة التتبع مقارنة بالغواصات الأميركية شديدة الهدوء، وهو ما جعل بكين تواجه معضلة كبيرة بسبب سهولة اكتشاف وتتبع غواصاتها بواسطة الغواصات الأميركية. بيد أن عصر الهيمنة الأميركية المطلقة على البحار والمحيطات يبدو أنه في طريقه للزوال، هذا ما أشار إليه تقرير حديث نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
تناول التقرير الجهود التي تبذلها بكين من أجل تقليص الفجوة بين الجيشين الأميركي والصيني، ومن بينها التطور الكبير الذي شهدته تكنولوجيا الغواصات الصينية وقدرات الكشف تحت الماء؛ ما يترتب عليه آثار كبيرة على التخطيط العسكري الأميركي حال اندلاع صراع بين الصين وتايوان.
في بداية عام 2023، أظهرت الصور التي رصدتها الأقمار الصناعية أن الصين أطلقت غواصة هجومية تعمل بالطاقة النووية ومزودة بنظام دفع نفاث بدلا من المحركات المروحية. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يُرصد فيها استخدام الصين لتقنية تقليل الضجيج مشابهة لتلك المستخدمة في أحدث الغواصات الأميركية، بحسب “وول ستريت جورنال”.
وأبعد من ذلك، فقد أصبحت منطقة غرب المحيط الهادئ أكثر خطورة على غواصات البحرية الأميركية، وفقا للتقرير، وذلك بعد أن قامت بكين بإنشاء العديد من شبكات الاستشعار تحت الماء في بحر الصين الجنوبي ومناطق أخرى على طول الساحل الصيني، والتي أطلقوا عليها اسم “سور الصين العظيم تحت الماء”.
وإجمالا، فقد استطاعت بكين تعزيز المكون البحري في “الثالوث النووي”، حتى أصبح الأسطول الصيني اليوم يتجاوز الأسطول الأميركي من حيث عدد السفن، إذ عملت الصين على مضاعفة عدد سفنها البحرية بين عامي 2014 و2018 بما يفوق إجمالي عدد سفن القوات البحرية الألمانية والهندية والبريطانية والإسبانية مجتمعة.
وفي السنوات المقبلة، من المتوقع أن تطلق الصين فئة جديدة من غواصات الصواريخ البالستية (SSBN)، وهي الغواصة النووية الشبحية “تايب 096 (Type 096)”، والتي تعد إنجازا جديدا، إذ تمتاز الغواصة الحديثة بقدرة أعلى على التخفي من الفئة السابقة “تايب 094″، وتتمتع بمستوى هدوء أعلى بكثير من الغواصات الصينية الحالية. وبحسب بعض التقديرات، يمكن لهذا الضيف أن يحدث تغييرات جذرية قادرة على قلب قواعد اللعبة في المنطقة البحرية المحيطة بجمهورية الصين الشعبية.
منذ سبعينات القرن الماضي، كان العنصر الجوي مهملا بشكل واضح في القوة الإستراتيحية النووية للصين، ويحتل مكانة ثانوية. استمر هذا الوضع حتى عام 2018، عندما أفادت تقارير وزارة الدفاع الأميركية أن القوات الجوية لجيش التحرير الشعبي قد أعيد تكليفها بمهمة نووية ترتكز بشكل خاص على تطوير القاذفات النووية الإستراتيحية.
أنتجت الصين في السنوات التالية أعدادا كبيرة من القاذفة الإستراتيحية “إتش-6 كي (H-6K)”، وهي نسخة معدلة من القاذفات النووية “إتش-6 (H-6)” التي صممت على غرار القاذفة الروسية “تي يو-16 (Tu-16)” ودخلت الخدمة في خمسينات القرن الماضي.
أسهمت الأجيال الجديدة من سلسلة “إتش-6” في دفع الصين للمقدمة في المشهد الجيوسياسي الآسيوي. وكان منها الإصدار “إتش-6 كي” الذي يمتاز عن الفئة السابقة بمحركات أكثر كفاءة وقدرة على الطيران إلى مدى أعلى يصل إلى 3000 كيلومتر، بالإضافة إلى أن هذه القاذفات بإمكانها التزود بالوقود جوا أثناء الطيران.
صممت طائرة “إتش-6 كي” في المقام الأول لتعمل صائدة للسفن، وذلك لقدرتها على إطلاق صواريخ باليستية على أهداف كبيرة مثل المدمرات وحاملات الطائرات. هذا بالإضافة إلى قدرتها على الاشتباك مع أهداف أرضية وحمل ما يصل إلى 4 صواريخ باليستية، وهو ما يمنح جيش التحرير الشعبي الصيني قدرة على ضرب أهداف بدقة من مسافة بعيدة.
كشفت الصين علنا عن قاذفتها الإستراتيحية الأخرى من طراز “إتش-6 إن (H-6N)” عام 2019، والتي تشكل جزءا من إستراتيحية الدفاع والردع النووي الصيني. تمتاز القاذفة بمدى أعلى يصل إلى 4000 كيلومتر، إلى جانب قدرتها على حمل رؤوس حربية ذات قدرات نووية وأخرى تفوق سرعتها سرعة الصوت.
وفي عام 2016، كانت قد أعلنت الصين أنها بصدد تطوير قاذفة نووية شبحية قادرة على منافسة القاذفة الشبح الأميركية “بي-21 (B-21)”، وظلت المعلومات عن القاذفة الصينية الحديثة محاطة بالسرية حتى عام 2020، عندما بث التلفزيون الصيني لأول مرة صورا للقاذفة الإستراتيجية “إتش-20 (H-20)”.
وبحسب المعلومات المتاحة، يصل مداها إلى 8500 كيلومتر. ووفقا لما ذكرته مجلة “لوبوان (Le Point)” الفرنسية، تتمتع بقدرات عابرة للقارات، بالإضافة إلى قدرات نووية وتقليدية، وهو ما يشكل قفزة كبيرة للقوات الجوية الصينية التي اقتصر نطاق عملها لعقود طويلة على المنطقة الإقليمية المحيطة.
ومن المتوقع أن يؤدي تصميم القاذفة الصينية الشبح “إتش-20” العابرة للقارات، بالإضافة إلى الغواصات والصواريخ النووية المتزايدة، إلى استكمال قدرات “الثالوث النووي” الصيني؛ ما يرفع قدرة الصين إلى مستوى يشابه قدرة الولايات المتحدة وروسيا في هذا السياق.
غموض مقصود وتقدم هادئ
في 2006، أعلنت الصين إستراتيجيتها النووية التي نصت على انتهاج سياسة دفاع عن النفس ذات أهداف مزدوجة، تعتمد من جهة على ردع الهجمات النووية الموجهة إليها، ومن جهة أخرى، منع الدول الأخرى من القدرة على إخضاع بكين سياسيا عبر توجيه التهديدات النووية.
ومن ثم يمكن القول إنها تبنت مبدأ “الدفاع النشط”، إذ تعهدت الصين بانتهاج سياسة دفاعية خالصة تنص على عدم البدء باستخدام الأسلحة النووية تحت أي ظرف من الظروف إلا في حالة الهجوم المضاد.
في حين أشارت الإستراتيجية العسكرية الصينية لعام 2015 إلى ضرورة الاستعداد لحالات الطوارئ المحتملة في المناطق الحدودية المحيطة، مثل تايوان ومنطقة بحري جنوب وشرق الصين، وذلك في إطار عملية إعادة هيكلة القوات البحرية والجوية لجيش التحرير الصيني بحيث تتناسب مع العمليات الدفاعية والهجومية على حد سواء.
أثارت هذه التغيرات الإستراتيجية قلق مسؤولين وخبراء أميركيين، لأنها قد تعني، بصورة ما، تخلي الصين عن عقيدة الدفاع، ويرجّح ذلك توسعها في بناء ترسانة نووية هائلة، وكذلك تصريحات الرئيس شي الذي يشدد على “الحفاظ على المبادرة الإستراتيجية لحماية الأمن القومي بقوة من طرف الصين”.
وفي الوقت الذي تؤكد فيه تقارير وزارة الدفاع الأميركية أن الصين تسعى بالفعل لتحقيق تكافؤ نووي مع الولايات المتحدة وروسيا بهدف الحصول على مكانة القوة العظمى على الساحة الدولية، تتمسك الصين في خطابها الرسمي بأن مساعيها لتحديث ترسانتها النووية تتلخص في قلق بكين من تنامي القدرات النووية والصاروخية للبلدان الكبرى إلى درجة تجعلها عاجزة عن الردع النووي إذا تلقت ضربة استباقية.
وفي كل الأحوال، فإن ثمة تخوفات أميركية من أن هذه المساعي من قبل الصين سوف تقوّض قدرة السلاح النووي الأميركي على فرض معادلة السيادة والهيمنة، حيث تحتفظ الولايات المتحدة لنفسها بحق المبادرة باستخدام السلاح النووي أولا، في حين ترفض أن تتجه الصين لمثل هذه العقيدة النووية وأن تظل في إطار المنطق الإستراتيجي الدفاعي.
تبرر الولايات المتحدة هذه المعايير التي تبدو مزدوجة بإضفاء الصبغة الأخلاقية على أهدافها السياسية الخاصة، حيث تروج الولايات المتحدة أن أهدافها في المحيط الإقليمي للصين هو نشر الديمقراطية والأمن الجماعي وحماية تلك الدول الصغيرة من الأيديولوجية الصينية الشيوعية الاستبدادية، في حين يرى الصينيون أن هذا لا يعدو إلا غطرسة أمريكية واحتكار لمفاهيم الرشد السياسي ومحاولة لفرض نموذجها السياسي والقيمي على العالم بالقوة.
وما يبدو هو أن حالة الغموض والارتباك التي تكتنف إستراتيجية بكين هي عمل منظم ومقصود بدقة، إذ تسعى للتسلل بأكبر قدر ممكن من الهدوء لتملأ كل الفراغات التي يخلفها التراجع الأميركي المحتمل، والاستعداد لحالة الانتقال المتوقعة في هيكل القوة داخل بنية النظام الدولي، لتعود الصين كما يراها أهلها “مركز العالم” وأصل حضاراته.